و لما سقطت الصفوة الطاهرة من أصحاب الامام علیهالسلام صرعی علی أرض الشهادة و الکرامة، هب من بقی منهم الی المبارزة، و قد ذعر المعسکر بأسره من بطولاتهم النادرة، فکانوا یستقبلون الموت بسرور بالغ، و قد ضج الجیش من الخسائر الفادحة التی منی بها، و قد بادر عمرو بن الحجاج الزبیدی و هو من الأعضاء البارزین فی قیادة جیش ابنسعد فهتف فی الجیش ینهاهم عن المبارزة قائلا:
»یا حمقاء أتدرون من تقاتلون، تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر و قوما مستمیتین، فلا یبرز لهم منکم أحد الا قتلوه، والله لو لم ترموهم الا بالحجارة لقتلتموهم..» (1).
و حکت هذه الکلمات ما اتصف به السادة أصحاب الامام من الصفات البارزة فهم فرسان أهل المصر، و ذلک بما یملکونه من الشجاعة، و قوة الارادة و انهم أهل البصائر فلم یندفعوا الی نصرة الامام علیهالسلام الا علی بصیرة من أمرهم، و لیسوا کخصومهم الذین تردوا فی الغوایة، و ماجوا فی الباطل و الضلال، کما انهم قوم مستمیتون و لا أمل لهم فی الحیاة.
لقد توفرت فی أصحاب الامام جمیع النزعات الخیرة، و الصفات الکریمة من الایمان و الوعی و الشجاعة و شرف النفس، و یقول المؤرخون، ان ابنسعد استصوب رأی ابن الحجاج فأوعز الی قواته بترک المبارزة معهم (2) و شن عمرو بن الحجاج هجوما عاما علی من تبقی من أصحاب الامام، و التحموا معهم التحاما رهیبا، و اشتد القتال کأشد ما یکون القتال عنفا (3) و قد استنجد عروة بن قیس بابنسعد لیمده بالرماة و الرجال قائلا:
»ألا تری ما تلقی خیلی هذا الیوم من هذه العدة الیسیرة، ابعث الیهم الرجال و الرماة«.
و طلب ابنسعد من المنافق شبث بن ربعی القیام بنجدته فأبی، و قال: «سبحان الله شیخ مضر، و أهل المصر عامة، تبعثه فی الرماة لم تجد لهذا غیری!!..«.
و لما سمع ذلک ابنسعد منه دعا الحصین بن نمیر فبعث معه المجنفة و خمسمائة من الرماة، فسددوا لأصحاب الحسین علیهالسلام السهام فأصابوا خیولهم فعقروها، فصاروا کأنهم رجالة، و لم تزدهم هذه الخسارة الا استبسالا فی القتال،، و استهانة بالموت، فثبتوا کالجبال الشامخات، و لم یتراجعوا خطوة واحدة، و قد قاتل معهم الحر بن یزید الریاحی راجلا، و استمر القتال کأعنف و أشد ما یکون ضرواوة، و قد وصفه المؤرخون بأنه أشد قتال خلقه الله، و قد استمر حتی انتصف النهار (4).
1) أنساب الاشراف ق 1 / ج 1.
2) أنساب الأشراف ق 1 / ج 1.
3) حیاة الامام الحسین 3 / 211.
4) تاریخ ابنالأثیر 3 / 291.