و سار موکب الامام یطوی البیداء حتی انتهی الی «شراف» و فیها عین ماء فأمر الامام فتیانه بالاستقاء و الاکثار منها، ففعلوا ذلک، و سارت القافلة، فانبری بعض أصحاب الامام بالتکبیر، فاستغرب الامام منه، و قال له:
»لم کبرت؟…«
»رأیت النخل…«.
و أنکر علیه رجل من أصحاب الامام ممن عرف الطریق، فقال له:
»لیس هاهنا نخل، و لکنها اسنة الرماح، و آذان الخیل«…
و تأملها الامام، فطفق یقول: و أنا أری ذلک – أی أسنة الرماح و آذان الخیل – و عرف الامام أنها طلائع الجیش الأموی جاءت لحربه فقال لأصحابه:
»أما لنا من ملجأ نلجأ الیه، فنجعله وراء ظهورنا، و نستقبل القوم من وجه واحد..«.
و کان بعض أصحابه عارفا بسنن الطریق فقال له:
»بلی هذا ذو حسم (1) الی جنبک، تمیل الیه عن یسارک، فان سبقت الیه فهو کما ترید..«.
و مال موکب الامام الیه، فلم یبعد کثیرا حتی أدرکه جیش مکثف بقیادة الحر بن یزید الریاحی، قد عهد الیه ابنمرجانة أن یجوب فی صحراء الجزیرة للتفتیش عن الامام، و القاء القبض علیه، و کان عدد ذلک الجیش فیما یقول المؤرخون زهاء ألف فارس، و وقفوا قبال الامام فی وقت الظهر، و قد أشرفوا علی الهلاک من شدة الظمأ، فرق علیهم الامام، فأمر أصحابه أن یسقوهم الماء، و یرشفوا خیولهم، و سارع أصحابه فسقوا الجیش المعادی لهم عن آخره، ثم انعطفوا الی الخیل فجعلوا یملأون القصاص و الطساس فاذا
عب الفرس فیها ثلاثا، أو أربعا، أو خمسا، عزلت، و سقی الآخر حتی سقوها عن آخرها.
لقد تکرم الامام علیهالسلام علی أولئک الوحوش الأنذال الذین جاءوا لحربه فأنقذهم من الظمأ القاتل، و لم تهزهم هذه الأریحیة و هذا النبل، فقابلوه بالعکس، فمنعوا الماء عنه، و عن أطفاله حتی تفتت قلوبهم من الظمأ.
1) ذو حسم: – بضم الحاء و فتح السین – جبل هناک.