و أعیی مسلما نزیف الدم، و قد أثخن بالجراح، فانهارت قواه، و لم یتمکن علی المقاومة، فوقع أسیرا بأیدی أولئک الأقزام، و تسابقوا الی ابنمرجانة یحملون له البشری بأسرهم للقائد العظیم الذی جاء لیقیم فی بلادهم حکم القرآن، و یحررهم من جور الأمویین و ظلمهم، و طار ابنمرجانة فرحا، فقد ظفر بخصمه، و تم له القضاء علی الثورة و حمل مسلم أسیرا الی عبد الأمویین و عمیلهم، و قد ازدحمت الجماهیر التی بایعته، و أعطته العهود و المواثیق فی الوفاء ببیعته الا انهم خانوا بذلک، و راحوا یقاتلونه.
و انتهی بمسلم الی القصر الامارة، و قد أخذ العطش منه مأخذا عظیما فرأی جرة فیها ماء بارد، فالتفت الی من حوله فقال لهم:
»اسقونی من هذا الماء..«.
فانبری له اللئیم الدنس عمیل الأمویین مسلم بن عمرو الباهلی، فقال له:
»أتراها ما أبردها، والله لا تذوق منها قطرة حتی تذوق الحمیم فی نار جهنم..«.
و دلت هذه الباردة و غیرها مما صدر من هؤلاء الممسوخین علی تجردهم من جمیع القیم الانسانیة، و من المؤکد أن هذا هو السمت البارز من أخلاق السفلة الساقطین من قتلة الأنبیاء و المصلحین، و بهر مسلم من هذا الانسان الممسوخ فقال له:
»من أنت،..«.
فأجابه الباهلی بأنه من خدام السلطة و أذنابها قائلا:
»أنا من عرف الحق، اذ ترکته، و نصح الأمة و الامام اذ غششته، و سمع و أطاع اذ عصیته أنا مسلم بن عمرو الباهلی..«.
أی حق عرفه هذا الجلف الجافی، و هو و الأکثریة الساحقة من المجتمع الذی عاش فیه، قد غرقوا فی الباطل و المنکر.. ان غایة ما یفخر به الوغد تمادیه فی خدمة ابنمرجانة الذی هو أقذر مخلوق عرفه التاریخ البشری، و رد علیه مسلم بمنطقه الفیاض قائلا:
»لأمک الثکل، ما أجفاک، و أفظک، و أقسی قلبک، أنت یا ابنباهلة أولی بالحمیم و الخلود فی نار جهنم منی..«.
و کان عمارة بن عقبة حاضرا فاستحیا من جفوة الباهلی و لؤمه فدعا بماء بارد فصبه فی قدح، و ناوله الی مسلم، و کلما أراد أن یشرب امتلأ القدح دما و فعل ذلک ثلاثا، فقال: لو کان لی من الرزق المقسوم لشربته.