سألنی شاب جامعی – و قد بدت علی وجهه آثار الحیرة -:
هل العباس حقا یدافع عن المقدسات و المبادیء؟
قلت: نعم فسیرة أبیالفضل العباس – علیهالسلام – الذاتیة کلها منصبة فی هذا المسعی، و حیاته حافلة بمواقف الدفاع عن العقیدة و الحق و الحریة، و العدالة الاجتماعیة..
قال لی – و الحیرة تتسع فی عینیه: إذا کان العباس حقا یدافع عن المقدسات – کما تقول – فلماذا – إذن – لم یدافع عن ضریحه و منارته و هی منارة مقدسة فقد سمعت الیوم خبرا یقول:
إن جنود العدو أطلقوا النار علی مرقده المقدس، فقصفوا منارته الشریفة بالقذائف و نیران الأسلحة… ثم واصل یقول: و هذا یؤلمنی جدا و یجعلنی حزینا إلی أبعد الحدود إذ کیف یمکن لجنود أوغاد أن یتجرأوا، و یتطاولوا علی ضریح أبیالفضل العباس المعروف بالدفاع عن الحق و المبادیء الإنسانیة فیقطعوا منارته و فی الوقت ذاته لم یصدر أی رد فعل من أبیالفضل العباس تجاه هذا العمل الشنیع، لذلک قررت أن أترک الصلاة، و أعیش هکذا بلا دین إلی آخر عمری!.
قلت له – فی هدوء، و قد وضعت یدی علی کتفه -:
قل لی: أیهما أعظم عند الله و عند الناس جمیعا منارة العباس أم یده؟
قال: ید من؟
قلت: ید أبیالفضل العباس.. أیهما أعظم ید أبیالفضل العباس أم منارته؟
قال: لا شک أن یده أعظم عندالله و عند الناس من منارته لأن یده ید علی و الحسن و الحسین و قد قبلها هؤلاء جمیعا بالإضافة إلی الإمام زینالعابدین.. زد علی ذلک أن یده قطعت من أجل الحق و من أجل الدین و قد قال: و الله لو قطعتمو یمینی انی أحامی أبدا عن دینی!!
قلت له: بارک الله فیک، و أحسنت کثیرا علی هذا القول الرائع و کم أنا مسرور بسماعی لک و أنت تتحدث بهذا الشکل إننی فخور جدا و مسرور أیضا حینما أجد شابا جامعیا یحمل هذه الثقافة الإسلامیة الرائعة و فی الوقت نفسه أتساءل: کیف یمکن لشاب جامعی فی مثل ثقافتک هذه أن یفکر بقطع الصلاة و ینوی ترک الدین إلی آخر العمر؟
ولکن مع ذلک کله، فالأمل کبیر بعودتک إلی حظیرة الإیمان و الثقافة الدینیة التی أنت لست بعیدا و لا غریبا عنها کما یؤکد ذلک منطقک هذا و موقفک هذا –
إن الحق یا بنی فی قطع منارة العباس – علیهالسلام – لیس علی العباس و إنما علینا نحن المسلمین الذین ترکنا الجهاد و المبادیء الإسلامیة و رکنا إلی الراحة و الدعة و الترف حتی وصلت حالتنا إلی ما وصلت إلیه الآن.
إن الدفاع عن منارة العباس و ضریح علی، و قبة الحسین – علیهالسلام – لیس شأنا یخص أهل البیت بمقدار ما یخصنا نحن.. لأننا نحن المعنیون بالأمر، و ذلک أن أباالفضل العباس قد أدی ما علیه من دور فی نصرة الحق
و یوم قطعوا یمینه قال:
و الله إن قطعتمو یمینی
إنی أحامی أبدا عن دینی
إذن: فالعباس حامی عن دینه و بقی علینا نحن أن نحامی عن الدین کما حامی العباس عنه، و منارة أبیالفضل هی رمز للعقیدة و الدین و المبدأ.. مبدأ الحق و الحریة و العدالة الإنسانیة، فإذا ضربت فإن الواجب علینا أن نهب للدفاع عنها لا أن نطرح أسئلة علی أبیالفضل العباس لماذا لم یخرج هو من ضریحه و یدافع عن منارته.. إن هذا اللون من التفکیر هو جزء من الحالة المتردیة التی نعیشها نحن المسلمین فی هذه العصور التی أقل ما یقال فیها: إنها عصور انحطاط و هبوط.
إن منارة العباس شأنها شأن العتبات المقدسة الأخری لا تخص أباالفضل و إنما تخصنا نحن لأنها رمز لعقیدتنا و إیماننا بالله و بالحق و یجب ألا ننتظر من أهل البیت أن یخرج الواحد منهم من قبره ویشق الصفوف مصلتا سیفه للدفاع عن أمة کسولة خانعة ذلیلة تخاف أن یتخطفها الناس من حولها.
کلا.. لا یمکن أن تمشی الحیاة علی المعجزات، و إنما الحیاة تجری وفقا للأسباب و العوامل و السنن التی زرعها الله سبحانه فی هذا الکون و جعل تطبیقها و العمل بها یؤدی إلی السعادة و النصر و السیادة فی الدنیا و الآخرة.. فی حین أن المخالفة لهذه القوانین لیس وراءها إلا الضیاع و التمزق و الحرمان، و هو بالضبط ما یعانی منه الیوم المسلمون فی شرق الأرض و غربها. و نحن نعرف أن الوهابیة حین هدمت قبور الأئمة المعصومین فی البقیع إنما قامت بأبشع جریمة یمکن أن ترتکب ضد عقیدة أمة من الأمم لأنه عمل بربری همجی ضد العلم و الدین، و الأخلاق و النور و الإیمان و بالتالی ضد القرآن الکریم و ضد رسول الله – صلی الله علیه و آله و سلم – لأن هؤلاء
الأئمة – هم أبناء الرسول و هم الذین حملوا علوم القرآن و أخلاق النبی إلی العالم أجمع.. فمن منا لا یعرف من هو الإمام الحسن علیهالسلام الذی کان یحمله جده النبی علی صدره و یقول: الحسن و الحسین سیدا شباب أهل الجنة.. الحسن و الحسین ریحانتای من الدنیا..؟
و من منا لم یسمع بزینالعابدین علی بن الحسین ذلکم الرجل العظیم الذی ملأ الدنیا علما و خشوعا و زهدا و عبادة حتی صار زینالعابدین مضرب الأمثال للناس الذین یفتشون عن الحق و العدل و الحریة، و یبحثون عن معنی العبادة و الزهد فی هذه الدنیا الدنیة؟.
و من منا لا یعرف من هو الإمام محمد بن علی الباقر ذلکم الرجل الفذ العظیم الذی أطلق النبی صلی الله علیه و آله و سلم علیه هذا اللقب لأنه بقر العلم بقرا، و هو أول من وضع القواعد و الأسس لجامعة العلوم الإسلامیة، و لحضارة الإسلام التی واصل المسیرة فیها ولده الإمام جعفر بن محمد الصادق علیه أفضل الصلاة و أزکی السلام – و من منا لا یعرف من هو الصادق الذی سارت الرکبان بعلومه و طبقت شهرته الآفاق حتی کان فی جامعته الإسلامیة قرابة أربعة آلاف طالب علم و کل واحد منهم کان عالما نحریرا یقول: حدثنی جعفر بن محمد الصادق علیهالسلام..
و یکفی أن نعرف أن أئمة المذاهب الأربعة إنما هم تخرجوا من تحت ید هذا الإمام إما مباشرة و إما بواسطة مثل مالک، و النعمان بن ثابت الذی درس حولین کاملین فی مدرسة الإمام الصادق، و قال بعدها:
»لولا السنتان لهلک النعمان..» و هنا أبوحنیفة یؤکد هذه القدرة العلمیة الکبیرة التی کانت فی مدرسة الإمام الصادق علیهالسلام.. علی أن العالم الیوم یدین بحضارته لمدرسة الإمام الصادق التی نقلت نور الحضارة الإسلامیة إلی العالم أجمع.. و إنی – و الله – لتأخذنی الدهشة حین أری هؤلاء العظماء لا أضرحة لهم و لا قباب تنیر درب الأجیال تدل علیهم و إنما
قبورهم سویت مع التراب و کأنهم أعراب بادیة و لیسوا زعماء حضارة وقادة فکر تخر لهم العمالقة و تذوب بین أیدیهم العباقرة..
یحدث مثل هذا فی الوقت الذی نجد فیه الأمم الکافرة کیف تحترم عظماءها و تقدسهم و تخصص لهم أیاما من وقتها لدراسة حیاتهم و تنصب لهم التماثیل فی العواصم و تنشر فکرهم علی الأقمار الصناعیة فی کل أرجاء الدنیا علی الرغم من أن أولئک العظماء الغربیین لو أخذنا کل علومهم و فکرهم الحضاری و جمعناه فإنه لا یساوی و لا یشکل سوی قطرة واحدة فی بحر الحضارة الإسلامیة العظیم المتمثل بأئمة المسلمین و خصوصا هؤلاء العظماء الذین تعرضت قبورهم للهدم فی البقیع و هم علی التوالی: الإمام الحسن و الإمام السجاد علی بن الحسین و الإمام الباقر محمد بن علی و الإمام الصادق جعفر بن محمد علیهم أفضل الصلاة و أزکی السلام.
و عندما وصلت إلی هذه النقطة من الحوار مع الشاب الجامعی رأیت الدموع تفیض من عینیه ثم صافحنی وشد علی یدی و هو یقول:
الآن أدرکت أن المسؤولیة تقع علینا نحن المسلمین.. و ان قصف منارة العباس إنما هو من باب الامتحان لنا لیعلم الله الصادقین من الکاذبین.. و لا أشک أن الله سیسألنا غدا عن موقفنا تجاه هذا الحادث الجلیل، ثم ودعنی و ذهب و دموعه تنهمر علی خدیه.
أما أنا فجلست بعد انصراف هذا الشاب أحرر الصفحات التالیة التی هاجت بها أشجانی و أحزانی و حرکت مشاعری و الدموع فی عینی فکانت الصفحات التالیة فتعالوا معی نقرأها و نبکی لنأخذ الدروس و العبر.