کان هاجسه النصیحة لله و للرسول و لسیده و أخیه الإمام الحسین و کانت النصیحة عند أبیالفضل تعنی خوض الغمار من أجل الحق.
کانت النصیحة تعنی أن تفدی الإیمان و العقیدة بنفسک و کل ما ملکت یداک.
النصیحة: أن تؤدی الأمانة و تجتنب الخیانة.
أن تکون صادقا مع الله و مع الرسول و مع إمام زمانک.
أن تکون صادقا مع نفسک.. صادقا مع الناس.. صادقا مع الحیاة.
هذه هی النصیحة.. و أبوالفضل کان قد تشبع کیانه، و أضاءت أعماقه بنور النصیحة المقدسة هذه.. و لذلک یشهد له الإمام جعفر بن محمد الصادق – سلام الله علیه – بذلک فیقول: «أشهد لقد بالغت فی النصیحة و أعطیت غایة المجهود فبعثک الله فی الشهداء، و جعل روحک مع أرواح السعداء، و أعطاک من جنانه أفسحها منزلا و أفضلها غرفا و جعلک فی علیین و حشرک مع النبیین الصدیقین و الشهداء و الصالحین و حسن أولئک رفیقا«.
أجل لقد استحق أبوالفضل العباس هذه المنزلة عند الله لأنه کان ناصحا لله و للرسول و لعلی و فاطمة و الحسن و الحسین علیهم السلام – بمعنی أنه أبلی بلاء حسنا فی الدفاع عن مبادیء الحق و العدل و الحریة.. و عن الدین و الإیمان و العقیدة.
و انطلاقا من هذا المبدأ الذی حمله أبوالفضل العباس – علیهالسلام – وضحی من أجله.. نراه یقدم أخوته الثلاثة الذین هم من أمه أمالبنین.. نراه یقدمهم للمعرکة بین یدی أخیه أبیالضیم أبیعبدالله الحسین – علیهالسلام – فیقول لهم: «تقدموا یا بنی أمی حتی أراکم قد نصحتم لله و لرسوله، فإنه لا ولد لکم» و أراد أبوالفضل بکلمته هذه أن یثیر همتهم، و یوقظ عزمهم إذ لیس أمامهم مانع من الاندفاع و المبادرة إلی الحرب و الشهادة من أجل الحق الذی هو الإمام الحسین – علیهالسلام -.
و أترککم – الآن – مع الشیخ المفید یروی لکم قصة العباس و إخوته و کیف جرت مصارعهم بین یدی أخیهم الحسین – علیهالسلام -.
قال الشیخ المفید رحمه الله: «لما رأی العباس بن علی بن أبیطالب – علیهالسلام – کثرة القتلی فی أهل بیته، قال لإخوته من أمه (أمالبنین) و هم عبدالله و عثمان و جعفر: تقدموا یا بنی أمی حتی أراکم قد نصحتم لله و لرسوله الخ«.
و تقدم أخوة العباس و لم یمض زمان یسیر حتی هووا کما تهوی النجوم إلی الأرض مضرجین بدمائهم و لما رأی العباس مصرع أخوته بین یدی أخیه الحسین، و سمع بکاء الأطفال الصغار ینادون: العطش.. العطش. فلم یملک العباس أن أرخی عینیه بالدموع ثم تقدم إلی أخیه الحسین یطلب الرخصة، و یستأذنه بقتال القوم فقال له: أخی أباالفضل «أنت صاحب لوائی.. و إذا مضیت تفرق عسکری» و هذه الکلمة من سید الشهداء فی حق أخیه العباس تدل علی أن قمر العشیرة کان هو وحده یمثل
جیشا فی الدفاع عن الدین و العقیدة و الحقوق.. ولکن أباالفضل أکد طلبه هذا و ألح علی الحسین فی استئذانه فی قتال جیش الکفر و الشرک و الضلال.. و لأن الحسین سلام الله علیه کان حریصا علی أن یظل أخوه العباس إلی جانبه حیا إلی آخر لحظة حتی تشعر العائلة النساء و الأطفال الصغار بالأمن و الطمأنینة، لأن وجود حامی الظعینة فی الخیام من شأنه أن یضفی جوا من الهدوء و الطمأنینة فی نفوس الأطفال و النساء و هذه حقیقة واضحة لدی کل فطن عارف بالأمور، و مجری الأحداث إذ أن بقاء الحسین وحیدا فریدا یجعل العیال و الأطفال فی غربة ولوعة و اضطراب، فی حین أن بقاء أبیالفضل العباس مع أخیه الحسین یریح العائلة راحة لا یستهان بها أبدا.. و کان الحسین یدرک هذا المعنی بشکل جید.. و کذلک أبوالفضل حیث کان علی قدر کبیر من إرهاف الحس و عمق الشعور.
إن الحسین سلام الله علیه ما کان یهدأ و لا یهجع حین یسمع بکاء امرأة أو طفل فی الخیام.. و قد مر علینا فی أثناء الحدیث کیف کان الحسین یبعث أخاه العباس و ابنه علیا الأکبر حتی یسکتا النساء و الأطفال حین خطب الحسین و صار ینعی نفسه بقوله: ثم اقعنوا إلی و لا تنظرون.. إن ولی الله الذی نزل الکتاب و هو یتولی الصالحین.. فلما سمعت النساء هذا منه صحن و بکین و ضربن وجوههن فارسل إلیهن أخاه العباس و ابنه علیا الأکبر – هکذا تقول الروایة کما مر علینا – و قال لهما: سکتاهن فلعمری لیکثر بکاؤهن«.
و فی کلمة الحسین: «فلعمری لیکثر بکاؤهن» ظلال و أبعاد تکشف علاقة الحسین بهذه العائلة من جهة.. و تکشف عظمة و قدر بنات رسول الله من جهة ثانیة.. إذ أن کلمة: فلعمری تعنی أن روحی فداء لهؤلاء النسوة و الصبیة.. نفسی فداء لزینب و رقیة.. نفسی فداء لدموع فاطمة و سکینة.. نفسی فداء للرباب و طفلها الرضیع.. هکذا کان یقول الحسین.. و هذا هو المقصود من کلمته: فلعمری لیکثر بکاؤهن.
المهم.. من کل ما تقدم نستخلص أن السبب وراء امتناع الحسین عن إعطاء أخیه الإذن و الرخصة للقتال، هو حرص الحسین علی أن یظل أبوالفضل مع العائلة إلی آخر لحظة ممکنة. و لهذا لم یأذن له بالذهاب إلی المعرکة، و إنما أعطاه الإذن فی أن یجلب للأطفال و النساء ماء من الفرات لأنه هو السقا.. و هو الذی أخذ هذه المهمة علی عاتقه، فقال له الحسین:
»إذا فاطلب لهؤلاء الأطفال قلیلا من الماء» علما أن الحسین فی المرة الأولی لم یأذن له و إنما بکی بکاء شدیدا، و قال له: «یا أخی أنت صاحب لوائی و إذا مضیت تفرق عسکری» فلم یأذن له.. فعاد العباس للمرة الثانیة و طلب منه الإذن قائلا:
»یا أخی قد ضاق صدری، و سئمت الحیاة، و أرید أن آخذ ثأری من هؤلاء المنافقین» فقال له الحسین -: «إذا فاطلب لهؤلاء الأطفال قلیلا من الماء«.
فذهب العباس إلی القوم و وعظهم و حذرهم غضب الجبار و کان أبوالفضل العباس – علیهالسلام – خطیبا بارعا و قدیرا فهو ابن علی الذی یقول: نحن أمراء الکلام فینا تنشبت عروقه و علینا تهدلت أغصانه و لکن کلامه لم یؤثر فی قلوب القوم لأنها قلوب عمیاء خاویة علی عروشها من العمی.. و فی نهایة خطابه الذی ألقاه علی الجیش، طلب منهم شیئا من الماء للأطفال.. غیر أنهم رفضوا أن یعطوه الماء حتی و لا قطرة واحدة و قالوا له: لو کان تمام وجه الأرض ماء و کان تحت تصرفنا لم نسقکم منه قطرة، إلا أن تبایعوا لیزید و تدخلوا فی طاعته.. فرجع أبوالفضل إلی أخیه و أخبره بمقالة القوم.. فاطرق الحسین برأسه وفاضت عیناه بالدموع لأنه یری قسوة الظمأ التی تضرب الأطفال الصغار و تدع شفاههم ذابلة من العطش.. و بینما العباس فی ذلک إذ سمع الأطفال و معهم سکینة بنت الحسین ینادون: العطش.. العطش، فرفع رأسه إلی السماء و قال:
إلهی و سیدی، أرید أن أعتد بعدتی و املأ لهؤلاء الأطفال قربة من الماء.. فرکب فرسه و أخذ سیفه و رمحه و القربة و قصد الفرات فأحاط به أربعة آلاف فارس، و هم الذین کانوا موکلین بالفرات و أخذوا یدافعون عن الفرات و حالوا بینه و بین ماء الفرات و جاءته السهام و النبال مثل المطر المنهمر.. و لکنه لم یعبأ بجمعهم و لا راعته کثرتهم.. فحمل علیهم و کشفهم عن طریقه – بعدما أوقع فیهم هزیمة نکراء، حیث قتل العشرات من أبطالهم و فرسانهم فترکهم صرعی کأنهم أعجاز نخل خاویة.. ثم دخل الفرات مطمئنا غیر هیاب لذلک الجمع الغفیر:
و دمدم لیث الغاب یسطو بسالة
إلی الماء لم یکبر علیه ازدحامها
و خاض بها بحرا یرف عبابه
ظبی، وید الأقدار جالت سهامها
ألمت به سوداء یخطف برقها
البصائر من رعب و یعلو قتامها
جلاها بمحشود الفرارین أبلج
یدب به للدارعین حمامها
فملأها عن جانب النهر عنوة
و ولت هوادیها یصل لجامها
ثنی رجله عن صهوة المهر و امتطی
قری النهر و احتل السقاء همامها
ثم اغترف من الماء غرفة، و أدناها من فمه لیشرب، فتذکر عطش أخیه الحسین و عطاش أهل بیته و أطفاله، فرمی الماء من یده و قال:
یا نفس من بعد الحسین هونی
و بعده لا کنت أن تکونی
هذا الحسین وارد المنون
و تشربین بارد المعین
تا الله ما هذا فعال دینی»
أجل.. إن الدین الإسلامی العظیم الذی یربی أبطالا مثل أبیالفضل العباس، و یصنع رجالا مؤمنین ربانیین مثل بطل العلقمی قمر بنیهاشم لا یسمح بشرب الماء فی هذه الحال، لأنه لیس من مبادیء الإسلام و لا من فعال الدین أن یستلذ أبوالفضل بالماء بینما عشرات الأطفال الصغار شفاههم ذابلة من الظمأ و العطش ینتظرون عودته فی الخیام.
إنه لیس من فعال الدین أن یستلذ أحد بالماء فی الوقت الذی یری فیه طائفة من النساء و الأطفال قد أضر بها الظمأ.
و من هذا المبدأ.. رفض أبوالفضل أن یتذوق طعم الفرات و لذلک رمی الماء من یده.. علی أننی أظن أن السبب الذی جعل العباس یملأ یده من الماء ثم یرمی بها فی الشاطیء، إنما هو أراد أن یؤکد أنه أخذ الماء و نزل فی المشرعة و لیس ثمة مانع من شرب الماء إلا الإیثار و المواساة و النخوة.. و الأریحیة.. و الروح العلویة التی تجری فی أوصاله و عروقه.. فدماء أبیه علی أمیرالمؤمنین تجری فی عروقه و کان الإمام علی ینام جائعا طاویا خشیة أن یکون طفل فی أقصی الأرض لم یتمکن من الحصول علی رغیف من الخبز.. و إذا کان العباس ینحدر من نور علی و صلبه فکیف إذا یشرب من الماء فی هذه الحال و هو یسمع بکاء الأطفال من العطش؟
إن العباس ضرب أروع الأمثلة فی الفداء و التضحیة.. و فی الوفاء و النصیحة و الإیثار، و المواساة.. فهو ابن علی أمیرالمؤمنین – علیهالسلام – ذلکم البطل العملاق الذی کان حکمه یمتد علی ثلاثة أرباع الکرة الأرضیة، حیث کانت دولة الإسلام بقیادة الإمام علی قد ضرب بحجمها «أقطار الأرض و أفاق السماء» علی حد تعبیر البطلة المخدرة زینب العقیلة.. زینب
ابنة علی علیهاالسلام، حین وصفت حکومة أبیها بهذا الوصف لأنها قالت لیزید: حیث أخذت علینا أقطار الأرض و آفاق السماء و هذا یعنی أن حدود الدولة الإسلامیة کانت هکذا و بهذا الشکل و اللون، و هی نفس الدولة التی کان قد أقامها أبوها علی أمیرالمؤمنین – علیهالسلام –
أقول: إن أباالفضل العباس کان ابنا لهذا البطل العظیم علی إمام المتقین الذی علمه و رباه و غذاه العلم و الفکر، و البطولة و الشجاعة و السماحة.. علمه الإیثار، و المودة.. و الدفاع من أجل الحق و العدل، و الحریة.. من أجل الدفاع عن الدین و العقیدة.. من أجل ذلک رفض أبوالفضل أن یهنأ بالماء أو أن یتذوق طعم الماء و قد أشار الإمام جعفر بن محمد الصادق – علیهالسلام – إلی هذه الحقیقة بقوله: و لعن الله من حال بینک و بین ماء الفرات..» و هذا یعنی أنهم حالوا دون أبیالفضل و منعوه من الماء حین ضربوه علی رأسه و لم یترکوه یصل إلی الخیام حاملا القربة و الماء إلی أطفال و نساء الحسین و هن ودائع الأنبیاء و بنات الوحی و الرسالة.
علی أن هذا یشکل جانبا واحدا من القضیة التربویة الکبری التی سارت حیاة أبیالفضل علیها و جرت سیرته الذاتیة فی ضوئها، و ظلالها.
أما الجانب الثانی فهو أن الإمام الحسین علیهالسلام رأیناه کیف امتنع أن یشرب الماء قبل فرسه، و ذلک حین دخل الحسین الفرات بعد مصرع العباس، و کان فرسه فی غایة الظمأ فلما أقحم الفرس لیشرب الماء خاطبه الحسین بقوله:
أنت عطشان و أنا عطشان فلا أشرب حتی تشرب.. فرفع الفرس رأسه کأنه فهم الکلام.
هکذا تقول الروایة.. و نحن نعرف أن الخیل تتمتع. من بین الحیوانات بالقدرة الفائقة علی الفهم و الفطنة و استیعاب الأمور، کما أکد ذلک علماء الحیوان، و قالوا: إن ذکاء الخیل یصل إلی درجة أنها لیست فقط
تفهم الإشارة، و تدرک العبارة و إنما أکثر من ذلک حیث أنها تکتشف الزلزال الذی یضرب الناس قبل وقوعه بعشرین دقیقة و تصیر تضرب بأرجلها و تصهل صهیلا عالیا.
و المقصود هنا من کل ذلک هو: إذا کان الحسین علیهالسلام یمتنع من شرب الماء لأن فرسه عطشان فکیف یشرب أبوالفضل من الماء و عشرات الأطفال و النساء فی عطش و ظمأ؟.
لهذا حین تذکر عطش الحسین، و عطش أطفاله الصغار، رمی الماء من یده وراح یخاطب نفسه مدلا علیها أنها نفس عظیمة و العظیمة تعتصم بالإیثار و المواساة.
»یا نفس من بعد الحسین هونی..» و یصف أحد الشعراء دخوله إلی المشرعة و کیف لم یذق من الماء طعما و هو غارفه فیقول:
أبوه حیدرة من قبل علمه
ضرب الشجاعة قد شبت معاطفه
سل الشریعة عنه یوم خاض بها
هل ذاق للماء طعما و هو غارفه
رمی المعین بنهر من أنامله
و صد عنه و ما بلت مراشفه
إن لم یزد هو معنی فی شجاعته
علی أبیه فلم تنقص مواقفه«
ثم ملأ القربة و حملها علی کتفه الأیمن و رکب جواده و توجه نحو الخیام مسرعا لیوصل الماء إلی عطاش أهل البیت، فأخذوا علیه الطریق و تکاثروا علیه و أحاطوا به من کل جانب.. أما هو فجعل یصول فی أوساطهم و یضرب فیهم بسیفه و هو یرتجز و یقول:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا
حتی أواری فی المصالیت لقا
نفسی لنفس المصطفی الطهروقا
إنی أنا العباس أغدو بالسقا
و لا أخاف الشر یوم الملتقی
ثم حمل علیهم کاللیث الغضبان یضرب فی أوساطهم بالسیف حتی فرقهم و شتت جمعهم.. و أخذ یقترب من طریق الخیام شیئا فشیئا، غیر أن القوم استجمعوا شملهم المشتت و لملموا جراحهم النازفة و عادوا مرة ثانیة یقطعون علیه الطریق.. و لکن هذه المرة علی نحو أشد، و بجمع أکثر من المرة الفائتة.. و کل ذلک إنما حدث بفعل نداء عمر بن سعد قائد الجیش الأموی حیث نادی فی أصحابه: ویلکم مزقوا القربة بالسهام.. و صوبوا سهامکم، و رماحکم إلی صدره و وجهه.. فإن الحسین إذا شرب من الماء یأتی علیکم جمیعا – أی یفنیکم عن آخرکم – (و هذا إن دل علی شیء فإنما یدل علی ضعف عقلیة ابن سعد..) إذ کیف یستطیع الحسین أن یشرب الماء و عنده عشرات النساء و الأطفال ینادون العطش.. العطش.. فی شفاه ذابلة و دموع جاریة؟.. کیف یشرب الحسین من الماء فی هکذا وقت.. و الحسین من قد عرفناه.. إنه الإمام العابد الغالی.. رجل المبادیء.. و أبی الضیم.. الحسین بعد لحظات نراه کیف یمتنع من شرب الماء لأن جواده مد رأسه لیشرب فخاطبه الحسین – علیهالسلام -: «أنت عطشان و أنا عطشان.. فلا أشرب حتی تشرب..» أقول: کیف یمکن لرجل هذه خلعة، و تلک سجیته أن یشرب ماء و یستلذ بطعمه فی الوقت الذی یری فیه کل أطفاله الصغار و بناته و نساءه و هن ودائع بیت الوحی و بنات رسولالله، أقول: کیف یتأتی لإنسان من سائر الناس – فضلا عن أن یکون ذلک الإنسان هو ریحانة رسول الله.. کیف یتأتی له: أن ینعم و یستعذب شرب الماء و بین یدیه أطفال صغار قد هدهم العطش حتی غارت عیونهم..
و ذبلت شفاههم؟.
ولکن ماذا نصنع لواحد مثل عمر بن سعد الذی لا یفقه من الأمر شیئا و لا یعرف أی معنی للإیمان و لا للمبادیء و المثل.. و هکذا فما أن سمع العسکر صوت ابن سعد یأمرهم أن یحولوا بین العباس و بین وصوله سالما إلی خیام الحسین، حتی هجم الجیش علی أبیالفضل من کل ناحیة و مکان و نزلت علیه سهامهم و رماحهم و حجارتهم نزول المطر لکثرتها و عدم انقطاعها.. ولکن أباالفضل العباس رجل العقیدة و الدفاع عن الحق.. رجل الإیمان و البصیرة، ما وهن عزمه، و لا ضعفت قوته.. و إنما استمر یواصل کفاحه و نضاله و جهاده حتی یوصل الماء إلی أطفال الحسین سالما.. هذا هو جل همه فی هذه اللحظة، لأن الحسین إنما أعطاه الإذن لجلب الماء إلی الأطفال لا للقتال و لذلک کان موقفه لیس موقف الهجوم و إنما موقف الدفاع عن القربة رغم أنه فی بدایة الحملة کان قد هجم علی جیوش الشرک و الکفر و الضلال و فرقهم عن الماء و أوقع فیهم خسائر فادحة فی الأرواح و المعدات.. إلا أنه هذه المرة لا یستطیع أن یشن علیهم هجوما کما صنع فی بدایة قدومه إلی المشرعة، لأنه هنا إنما همه الأول و الأخیر هو أن یوصل الماء إلی خیام الحسین للأطفال و النساء.. و فیما هو یواصل مسیره نحو الخیام، إذ نصبوا له کمینا فی الطریق فکمن له زید بن الرقاد الجهنی من وراء نخلة، وعاونه حکیم بن الطفیل السنبسی، فضربه علی یمینه بالسیف فبراها.. و أخذ السیف بشماله، و ضم اللواء إلی صدره.. ثم حمل القربة علی کتفه الأیسر.. و حمل علی القوم کاللیث الغضبان و هو یقول:
»و الله إن قطعتمو یمینی
إنی أحامی أبدا عن دینی
و عن إمام صادق الیقین
نجل النبی الطاهر الأمین«
علی أن هذه الروایات هی من الروایات المؤکدة، و التی تکشف لنا أن أباالفضل ما کان یقاتل وسط المعرکة و فی قلبها لأن ساحة القتال لم یکن فیها نخیل و لا أشجار و إنما النخیل یوجد – فی العادة – علی الشاطیء.. و هذا یعنی أن أباالفضل العباس لکی یوصل قربة الماء سالمة إلی الحسین و أطفاله، فإنه قد أخذ طریق الشاطیء مسیرا له إلی الخیام و لم ینطلق من المعرکة و هو – أی هذا الأمر – واضح لمن یرید أن یعرف کم هو أبوالفضل العباس عظیما و موفقا فی المحافظة علی دینه و مبادیء عقیدته.. و لذلک کان یقول فی اللحظة التی فقد فیها یمینه:
»و الله إن قطعتمو یمینی
إنی أحامی أبدا عن دینی«
إن أباالفضل کان یحامی
عن دینه.. ذلکم الدین الإسلامی العظیم الذی جاء لتحریر البشریة و خلاص الإنسانیة من العبودیة و الذل و الاستبداد.
و قاتل سلام الله علیه – حتی ضعف عن القتال.. فکمن له حکیم بن الطفیل الطائی، من وراء نخلة و ضربه علی شماله فقطعها من الزند فقال العباس یخاطب نفسه:
»یا نفس لا تخشی من الکفار
و أبشری برحمة الجبار
مع النبی المصطفی المختار
قد قطعوا ببغیهم یساری
فأصلهم یا رب حر النار«
و عند ذلک سقط السیف من یده و أحنی علی القربة و جعل یسرع لیوصل الماء إلی المخیم.. و لما نظر ابن سعد إلی شدة اهتمام العباس علیهالسلام بالقربة.. صاح بالقوم:
»ویلکم، ارشقوا القربة بالنبل فوالله إن شرب الحسین من هذا الماء، أفناکم عن أخرکم» (1).
و هنا جاءه وابل من السهام و الرماح.. فأصابت القربة فأریق الماء و اندلق علی وجه التراب، و لا شک أنها کانت صدمة عنیفة لأبی الفضل لأن إیصال الماء إلی خیام الحسین کان له معنی کبیر عند باب الحوائج أبیالفضل العباس، ولکن ماذا یصنع و هذه القربة أمامه قد تمزقت و اندلق ماؤها فی التراب.. هکذا کان یفکر و السهام لم تنقطع عنه لحظة واحدة.. فجاءه سهم فأصاب صدره.. و سهم آخر أصاب إحدی عینیه فأطفأها.. وجمدت الدماء علی عینه الأخری فلم یتمکن أن یبصر بها طریقه.. و هنا وقف العباس متحیرا لا یدری ماذا یصنع.. فلیس له یدان فیدافع بهما.. و لا عین فیری بها طریقه. و بالتالی فلا ماء عنده لیوصله إلی الأطفال الرضع الذین قد صرعهم العطش.. و فیما هو علی هذه الحال إذ ضربه لعین من أزلام یزید علی رأسه بعمود من حدید.. فانقلب عن ظهر فرسه، و هوی إلی الأرض صریعا و العلم إلی جانبه و جعل یخور بدمه.. فانهال القوم علیه بأسیافهم فما ترکوا مکانا فی بدنه إلا ونالته سیوفهم.
و هوی بجنب العلقمی فلیته
للشاربین به یداف العلقم
و غدا یهم بأن یصول فلم یطق
کاللیث إذ أظفاره تتقلم
فعند ذلک نادی – برفیع صوته -: علیک منی السلام أباعبدالله – و ما کاد الحسین – علیهالسلام – یسمع صوت أخیه العباس، حتی حمل علی القوم و حاربهم حربا لا هوادة فیها و هم یفرون من بین یدیه و صوته یلاحقهم: إلی أین تفرون و قد فتتم عضدی، حتی أوقع فیهم هزیمة نکراء.. و أنزل فی
جیوشهم أکبر الخسائر و أفدحها.. و لا غرابة فی ذلک فهو ابن علی.. و هو الشجاعة و البطولة و البسالة کلها.. فلیس مستغربا أن یوقع بهم هذه الخسائر حتی قال بعض المؤرخین أن القتلی الذین وقعوا فی صفوف العدو من حملة الحسین کانوا یعدون بالمئات (فمن الفوارس فقط کان قد قتل ثمانمائة فارس) (2).
أقول: لا غرابة فی ذلک أبدا فالإمام الحسین – سلام الله علیه – کانت له هیبة، و سطوة علی القلوب بشکل رهیب، بحیث إذا رأوه قادما نحوهم اهتزت أبدانهم.. و اضطربت قلوبهم هلعا و خوفا من الحسین.. و علی أنه فی مثل هذه الحال یکون الجیش یضرب بعضه بعضا و تتکدس الخیول علی بعض و أکثر القتلی إنما یقعون بسبب تراکم الخیول بعضها فوق بعض کما نری ذلک یحدث أحیانا فی الأفلام الحربیة.. المهم أنی إنما أردت فقط أن أقرب هذه الفکرة إلی الأذهان.. لأن بعض الناس بمجرد أن یسمع خبرا من هذا اللون یسرع إلی تکذیبه و نفیه من دون أن یکون لدیه دلیل یدل علی ما ذهب إلیه..
علی کل حال.. فمهما یکن من أمر فلا شک أن الإمام الحسین – علیهالسلام – کانت له قوة و هیبة تفوقان التصور، بل تنخلع لهما القلوب و الرقاب.. فلما سمع صوت أخیه العباس أتاه مسرعا کالصقر إذا انحدر إلی فریسته – و هذه الروایات التی تصف الحسین تارة بالصقر.. و تارة بالأسد. فإنها تشیر إلی حالة الإمام الحسین حین هجم علی القوم یرید أن یثأر لمصرع أخیه أبیالفضل العباس – علیهالسلام – فلما وصل إلیه رآه مقطوع الیمین و الیسار مفظوخ الهامة.. مثخنا بالجراح..
العلم إلی جنبه ممزق تکسوه الدماء و القربة مخرقة و قد جف الماء
فیها. و هو یفحص برجلیه.. و هذا یعنی أن الحسین أدرک أخاه و فیه رمق من الحیاة فجلس عند رأسه منادیا:
أخی أباالفضل الآن انکسر ظهری و قلت حیلتی و شمت بی عدوی.
و الروایة أنقلها لکم کما هی:
»قالوا: فأدرکه الحسین، و به رمق الحیاة، فأخذ رأسه الشریف و وضعه فی حجره، و جعل یمسح الدم و التراب عنه.. ثم بکی بکاء عالیا.. و قال: الآن انکسر ظهری و قلت حیلتی و شمت بی عدوی«.
ثم انحنی علیه و اعتنقه، و جعل یقبل موضع السیوف من وجهه و نحره و صدره:
فمشی لمصرعه الحسین و طرفه
بین الخیام و بینه متقسم
ألفاه محجوب الجمال کأنه
بدر بمنحطم الوشیج ملثم
فأکب منحنیا علیه و دمعه
صبغ البسیط کأنما هو عندم
قد رام یلثمه فلم یر موضعا
لم یدمه عض السلاح فیلثم
و بعد أن نفض الحسین یدیه من أخیه العباس رجع إلی المخیم باکی العین.. منحنی الظهر یمسح دموعه بکمه – فاستقبلته ابنته سکینة تسأله عن عمها أبیالفضل فأخبرها الحسین بمصرعه فنادت:
و اعماه.. و عباساه..
و سمعتها زینب فصاحت واأخاه واعباساه.. واصنیعتنا بعدک.
أخی من یحمی بنات محمد
إن صرن یسترحمن من لا یرحم
هونت یا ابن أبیمصارع فتیتی
و الجرح یسکنه الذی هو ألم
قال الإمام علی بن الحسین زینالعابدین – علیهالسلام -:
»رحم الله عمی العباس بن علی فلقد آثر و أبلی و فدی أخاه بنفسه حتی قطعت یداه فابدله الله بجناحین یطیر بهما مع الملائکة فی الجنة.. کما جعل لجعفر بن أبیطالب.. و إن للعباس عند الله تبارک و تعالی منزلة یغبطه علیها جمیع الشهداء یوم القیامة» (3).
1) مقتل الحسین للسید بحرالعلوم ص 321.
2) کتاب نورالعین فی مشهد الحسین.
3) من کتاب العباس للمقرم ص 223.