عمق الإیمان، و البصیرة النافذة، تجعلان الإنسان یشع بالفضائل شعا، لأن الإیمان نور و الفضیلة ثمرة هذا النور.. أشبه بالشجرة الطیبة التی تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها.
و من هنا کانت الفضائل تتدفق من سیرة أبیالفضل العباس – علیه أفضل الصلاة و أزکی السلام – مثل الإیثار، و المواساة و الدفاع عن الدین و التضحیة من أجل القیم و المبادیء.. مبادیء الحق و العدالة الاجتماعیة و الحریة.
هذه هی الفکرة التی تنطلق منها سیرة أبیالفضل، و هذه هی القاعدة التی تنطلق منها حیاة هذا البطل العظیم الذی علمنا کیف ندافع عن الحق و العدل و الحریة ببسالة و شجاعة و أریحیة.
و حین ننظر فی هذه الفکرة نجد أنها مأخوذة من القرآن الکریم حیث یقول:
(و البلد الطیب یخرج نباته بإذن ربه، و الذی خبث لا یخرج إلا نکدا..) أی أن الذی خبثت سریرته، و عقیدته لا یمکن أن تصدر منه أفعال طیبة، و لا مواقف أصیلة، لأنه مریض یحتاج إلی علاج، و علاجه فی
الإیمان و العمل الصالح.. علی أننا نعرف أن الخلل النفسی یجر إلی خلل مثله (فی قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا) لأن المرض الذی فی القلب إذا لم تعالجه فإنه یتفاقم و یستشری فی الحال.
ثم یعطینا القرآن الکریم مثالا آخرا یقول فیه:
(مثل کلمة طیبة کشجرة طیبة، أصلها ثابت و فرعها فی السماء، تؤتی أکلها کل حین بإذن ربها(.
و معنی ذلک، أنه ما دامت هذه الشجرة طیبة، فإنها سوف تعطی ثمرا طیبا، و ما دامت هذه الشجرة ضاربة بأصولها و جذورها فی الأعماق، فإن فروعها ستعانق الجوزاء، و تبلغ السماء، و إنها ستعطی عطاء لا حدود له، و لا نفاد.. ستعطی ثمرا من کل شیء، و فی کل حین بإذن الله رب العالمین..
و هذا أنصع و أروع مثال للعقیدة و الأخلاق.. أو بتعبیر آخر: إنه أجمل مثال یمکن أن یصور العقیدة بالشجرة الطیبة، و الأخلاق بالثمار التی تدل علی طیب الشجرة.
و هکذا نعرف أن العقیدة هی الشجرة، و الأخلاق یمثلها الثمر.. و کلما کانت الشجرة قویة و ضاربة فی التربة، کانت الثمار جیدة، و العطاء عظیما، و طیبا…
علی هذا العطاء لیس فی وقت دون آخر، و لا فی فصل دون فصل، و إنما هو فی کل الفصول، و جمیع الأوقات.. و هذا هو شأن الأخلاق الطیبة التی تنبع من أصالة فی الإیمان، و البصیرة و الرشاد.
و کما أنه لیس فی الإمکان أن تکون الشجرة خبیثة، و الثمار طیبة، لأن فاقد الشیء لا یعطیه، کذلک لا یمکن أن تکون دخائل النفس خبیثة، و الأخلاق طیبة.. أبدا لیس فی الإمکان أن یکون مثل ذلک، لأنه خلاف القواعد العامة، و السنن الثابتة التی قام علیها نظام هذا الکون.
و من هذا المنطلق نجد العقیدة الراسخة القویة، هی التی تسقی النفس بنورها، فتشع النفس بالأخلاق و الفضائل و المکارم… بل تصبح النفس منبع الفضائل، و صهریج النور.. نور: الشجاعة، و المبادرة، و البسالة، و السماحة، و الفصاحة و المحبة فی قلوب المؤمنین.
کل ذلک نجده من الله أکرم المؤمن بها.. فانطلق فی طریق العدل و الحق، و الحریة و المساواة، و المواساة.. و الحفاظ علی الدین و الشرف، و التضحیة من أجل الحق.. ثم استهانة بالموت من أجل الدفاع عن حرمات الإسلام، و حقوق الآخرین.. و من أجل خلاص المحرومین و المعذبین، و إنقاذ الناس من أعدائهم.. و هذا هو بالضبط ما نلمسه فی سیرة أبیالفضل العباس، هذا البطل العظیم الذی یتفجر عبقریة، و شجاعة و رحمة… علی أن أباالفضل العباس – علیهالسلام – کان محبوبا و قریبا من القلوب الطیبة.. و لذلک نجد أن صاحب العقیدة الطیبة، القویة یکون – فی العادة – محبوبا لدی الجماهیر المؤمنین..
یقول القرآن الکریم – مشیرا إلی هذه الحقیقة:! (إن الذین آمنوا و عملوا الصالحات سیجعل لهم الرحمن ودا(.
و هذه قاعدة فی علم النفس الإسلامی، و مفادها:
إن علامة القلب السلیم أن یهفو إلی أصحاب الإیمان و العمل الصالح، کما أن علامة القلب المنحرف، أن ینفر من أهل الإیمان و العمل الصالح.. فإذا رأینا من یکره مثل هذا الإنسان المؤمن، فإن ذلک یدل علی انحراف فی الفطرة لدی ذلک الشخص بالذات.
و من هنا أصبح أهل البیت – علیهمالسلام – مقیاسا لدرجة الإیمان، و درجة الکفر لدی الناس جمیعا، فالذی یحبهم مؤمن، و الذی یبغضهم کافر، و هذه قاعدة وضعها القرآن الکریم فی الآیة السابقة، و قد أشار إلیها الرسول الأعظم محمد – صلی الله علیه و آله و سلم – فی أکثر مکان.. کما أکد علیها الأئمة الطاهرون فی
مواطن کثیرة.. و یوم وقف الإمام السجاد – علیهالسلام – فی المسجد الجامع فی الشام، کان من جملة ما قال: «أیها الناس أعطینا الحلم و العلم و السماحة و الشجاعة و الفصاحة، و المحبة فی قلوب المؤمنین» فرکز علی أن محبتهم لا تعیش إلا فی قلوب عامرة بالإیمان، لأن حبهم إیمان، و بغضهم کفر.
یقول الفرزدق:
من معشر حبهم دین و بغضهم
کفر و قربهم منجی و معتصم
و قد قال الله العظیم فی کتابه الکریم: (قل لا أسئلکم علیه أجرا إلا المودة فی القربی(.
و رأینا أباالفضل العباس – علیهالسلام – کیف کان یدافع عن الدین و العقیدة و عن أخیه الإمام أبیعبدالله الحسین – علیه أفضل الصلاة و أزکی السلام -.
علی أنه توجد ملاحظة هنا بالغة الأهمیة، و هی: أن أباالفضل العباس استطاع أن یعطی أروع و أنصع صورة عن الدین الإسلامی الحنیف، و هو أن الدین لیس فقط فی الإسلام و القرآن، بل و أیضا فی الإمام المعصوم.. فی حجة الله فی الأرض.. لأن الإمام المعصوم هو القرآن الناطق، و هو الإسلام الذی یمشی علی الأرض.. بل هو النور الذی جاء لیخرج الناس من الظلمات إلی النور بإذن ربهم. لذلک نجده – أی العباس – یقول حینما قطعوا یمینه:
و الله إن قطعتموا یمینی
إنی أحامی أبدا عن دینی
و عن إمام صادق الیقین
نجل النبی الطاهر الأمین
و أعود بکم الآن إلی الشجرة الطیبة التی ضربها الله مثلا لطیب المنبت،
و أصالة النفس الإنسانیة، و کرامة الأعراق، لأن الدین معناه هذه الشجرة الطیبة التی تتمثل فی النبی و أهل بیته الکرام، فإذا أنت کرهت هذه الشجرة و لم تحمل لها حبا فی قلبک و تبرمت بوجودها.. أو أنک قطعتها، و نثرت أغصانها، و دست أوراقها، فإن ذلک یعنی أنک ضد الدین و الإنسانیة، و ضد الله و ضد الجمال، و ضد العدالة و الحریة، و الحق و المساواة.. بل أنک ضد کل ما هو جمیل و مرغوب و محبوب.
و بالمثل: فلو رأیت إنسانا یقف ضد هذه الشجرة و یسبها ثم یروغ علیها و علی أغصانها ضربا بالفؤوس، و السیوف و النبال و الرماح، فإن هذا الموقف یعد عدوانا ضد الله و ضد إنسانیة الإنسان، و ضد الأنبیاء و کتب السماء. و لهذا فإننا نحکم علیه بأنه ضد الفطرة التی فطر الله الناس علیها، بالإضافة إلی أن هذا العمل لا یمت إلی الإنسانیة بصلة لا من قریب و لا من بعید.
و بالمثل: حین نجد بنیامیة یسبون علیا فوق المنابر.. و یشتمون أهل بیت النبی، ثم یذبحون أبناءهم، و یسبون – من السبی – نساءهم، و یشردونهم فی البلدان، و یمنعون عنهم الماء و الطعام.. أقول: حین نجد بنیأمیة یصنعون مثل هذا الصنیع، أو قل: الفعل الشنیع و أکثر من ذلک، نجدهم یرفعون القرآن الکریم فوق الرماح ثم یرمونه بالسهام حتی تتمزق أوراقه الکریمة.. فماذا نحکم علیهم.. و بأی منظار ننظر إلیهم.. و بأی میزان نزن فضائحهم هذه؟.
لا شک أنهم من ألد أعداء الإسلام. و لهذا کانوا یمثلون الشجرة الملعونة فی القرآن.
علی أن الوعی و الرشاد، و نفاذ البصیرة التی کان یتمتع بها هذا البطل الإنسانی الخالد، أبوالفضل العباس بن علی بن أبیطالب – علیهم الصلاة و السلام – أقول: هذه الخصال هی التی جعلت من أبیالفضل شعلة و هاجة من الشجاعة و المبادرة، و الفطنة و الذکاء و الاندفاع نحو الحق..
أجل.. هذه هی التی جعلت العباس قادرا علی الدفاع عن الدین و الحق و الحریة.. عن الدفاع عن الإیمان و العقیدة، و عن إمام صادق الیقین أبی الأحرار أبیعبدالله الحسین سید شباب أهل الجنة، و ریحانة الرسول، و قرة عین الزهراء البتول.. و من قال فیه النبی الکریم – صلی الله علیه و آله و سلم -: «حسین منی و أنا من حسین أحب الله من أحب حسینا«.
و لذلک شرف أبوالفضل الخطر الذی یتهدد الإسلام من قبل الظلمة و أعوان الظلمة، من الحکام الخونة، من بنیأمیة و من أشیاعهم و أتباعهم، من آل أبیسفیان و بنی هند آکلة الأکباد.. و لهذا قدم العباس نفسه و یدیه و رأسه فی سبیل الدفاع عن الدین و القرآن، و الحق و العدالة الاجتماعیة، فکان یرتجز و یقول:
و الله إن قطعتموا یمینی
إنی أحامی أبدا عن دینی
و عن إمام صادق الیقین
نجل النبی الطاهر الأمین
و الآن اقرأوا معی هذه الآیات التی وردت فی معنی الشجرة، و أنواع الشجر، و ألوان الثمر، و التی کلها أمثلة ضربها الحق سبحانه لتحریک القلوب، و إثارة العقول و المشاعر.
ثم اعلم أن أباالفضل العباس هو أروع مثال لذلک، و لهذه الشجرة، فقد خاطبه الإمام جعفر بن محمد الصادق – علیهالسلام – بقول:
(کان عمنا العباس بن علی نافذ البصیرة صلب الإیمان..(.
و لأنه نافذ البصیرة، و صلب الإیمان، فإن منزلته ستکون فی أعلی علیین، بحیث کل الشهداء یتطلعون إلی منزلته بشوق و حرارة و غبطة، و لذلک قال الإمام السجاد علیهالسلام: و إن لعمی العباس.. ابن علی، منزلة یغبطه علیها جمیع الشهداء یوم القیامة. کما مر علینا الآن.