ربما یستعصی البیان عن الافاضة فی القول فی هذا الفصل لشدة وضوحه و ربما اعقب الظهور خفاء فان من أبرز الصفات الحمیدة فی الهاشمیین الشجاعة و قد جبلوا علیها و بالاخص الطالبیین وقد اوقفنا علی هذه الظاهرة الحدیث النبوی «لو ولد الناس أبوطالب کلهم لکانوا شجعانا» (1) اذا فما ظنک بطالبی أبوه أمیرالمؤمنین قاتل عمر بن عبدود و مزهق مرحب و قالع باب خیبر و قد عرق فی ولده البسالة کلها و الشهامة بأسرها و علمه قراع الکتائب فنشأ بین حروب طاحنة و غارات شعواء و خؤولته العامریون الذین شهد لهم عقیل بالفروسیة و للخؤولة کالعمومة عرق ضارب فی الولد و من هنا قالت العرب فلان معم مخول اذا کان کریمهم و حوی المزایا
الحمیدة عنهما (2) و لم یعقد أمیرالمؤمنین علی أم البنین الا لتلد له هذا الفارس المغوار و البطل المجرب فما اخطأت ارادته الغرض و لا عدی سهمه المرمی.
فکان أبوالفضل رمز البطولة و مثال الصولات یلوح البأس علی أساریر جبهته فاذا یمم کمیا قصده الموت معه أو التقی بمقبل ولاه دبره و لم یبرح هکذا تشکوه الحرب و الضرب و تشکوه الهامات و الاعناق ما خاض ملحمة الا و کان لیلها المعتکر و لم یلف فی معرکة الا و قابل ببشره وجهها المکفهر.
یمثل الکرار فی کراته
بل فی المعانی الغر من صفاته
لیس ید الله سوی أبیه
و قدرة الله تجلت فیه
فهو ید الله وهذا ساعده
تغنیک عن اثباته مشاهده
صولته عند النزال صولته
لولا الغلو قلت جلت قدرته
و هی فی وسع الشاعر ان ینضد خیاله أو یتسنی للکاتب ان یسترسل فی وصف تلک البسالة الحیدریة و جوهر الحقیقة قائم بنفسه ماثل أمام الباحث بأجلی من کل هاتیک المعرفات فی مشهد یوم الطف.
و لعمری ان حدیث کربلا لم یبق لسابق فی الشجاعة سبقا و لا للاحق طریقا الا الالتحاق به فلقد استملینا اخبار الشجعان فی الحروب و المغازی یوم شأوا الاقران فی الفروسیة فلم یعدهم فی الغالب الاستظهار بالعدد و توفر العتاد و تهیء ممدات الحیاة من المطعم و المشرب فی المغالب أن الکفایة بین الجیشین المتقابلین موجودة.
یسترسل المؤرخون لذکر شجعان الجاهلیة و الحالة کما
وصفناها و اهتزوا طربا لقصة ربیعة بن مکدم – و هی ان ربیعة بن مکدم بن عامر بن حرثان من بنی مالک بن کنانة کان احد فرسان مضر المعدودین خرج بالظعینة و فیها امه ام سنان من بنی أشجع بن عامر بن لیس بن بکر بن کنانة و اخته أم عزة و أخوه أبوالقرعة و رأی الظعینة درید بن الصمة فقال لرجل معه صح بالرجل ان خل الظعینة و انج بنفسک و هو لا یعرفه فلما رأی ربیعة ان الرجل قد ألح علیه ألقی زمام الناقة و حمل علی الرجل فصرعه فبعث درید آخر فصرعه ربیعة فبعث الثالث لیعلم خبر الأولین فقتله ربیعة و قد انکسر رمحه فلما وافاه درید و رأی الثلاثة صرعی و رمحه مکسورا قال له یا فتی مثلک لا یقتل و هؤلاء یثأرون و لا رمح لک و لکن خذ رمحی و انج بنفسک و الظعینة ثم دفع الیه رمحه و رجع درید الی القوم و اعلمهم ان الرجل قتل الثلاثة و غلبه علی رمحه و قد منع بالظعینة فلا طمع لکم فیه. (3).
هذا الذی حفظته السیرة مأثرة لربیعة بن مکدم بتهالکه دون الظعائن حتی انکسر رمحه و لکن أین هو من (حامی الظعینة) یوم قاتل الالوف و زعزع الصفوف عن المشرعة
حتی ملک الماء و ملأ القربة و الکل یرونه و یحذرونه و انی لربیعة من بواسل ذلک المشهد الرهیب فضلا عن سیدهم أبیالفضل فلقد کان جامع رأیهم فلم یقدهم الا الی محل الشرف منکبا بهم عن خطة الخسف و الضعة علی حین ان الأبطال تتفاذف بهم سکرات الموت هذا وللسبط المقدس طرف شاخص الی صنوه البطل المقدام کیف یرسب ویطفو بین بهم الرجال و وجهه متهلل لکراته و لحرائر بیت النبوة أمل موطد لحامیة الظعائن.
و الیک مثالا من بسالته الموصوفة فی ذلک المشهد الدامی و هی لا تدعک الا مذعنا بما له من ثبات ممنع عند الهزاهز و طمأنینة لدی الاهوال.
الأول – فی الیوم السابع من المحرم حوصر سید الشهداء و من معه و سد عنهم باب الورود و نفذ ما عندهم من الماء فعاد کل منهم یعالج لهب الاوام (4) و بطبع الحال کانوا بین أنه وحنة و تضور و نشیج و متطلب للماء الی متحر ما یبل غلته و کل ذلک بعین «أبی علی» و الغیاری من آله و الاکارم من صحبه و ما عسی أن یجدوا لهم و بینهم و بین الماء رماح مشرعة و بوارق مرهفة فی جمع کثیف یرأسهم عمرو بن
الحجاج لکن «ساقی العطاشی» لم یتطامن علی تحمل تلک الحالة.
أو تشتکی العطش الفواطم عنده
و بصدر صعدته الفرات المفعم
ولو استقی نهر المحمرة لارتقی
و طویل ذابله الیها سلم
لو سد ذو القرنین دون وروده
نسفته همته بما هو اعظم
فی کفه الیسری السقاء یقله
و بکفه الیمنی الحسام المخذم
مثل السحابة للفواطم صوبه
فیصیب حاصبه العدو فیرجم
هناک قبض الحسین لهذه المهمة اخاه العباس فی حین ان نفسه الکریمة تنازعه الی ذلک قبل الطلب و یحدوه الیه حفاظه المر فأمره ان یستقی للحرائر و الصبیة و ان کان دونه شق المرائر و سفک المهج و ضم الیه ثلاثین فارسا و عشرین راجلا و بعث معهم عشرین قربة و تقدم امامهم نافع بن هلال الجملی فمضوا غیر مبالین وکل بحفظ الشریعة لأنهم محتفون بشتیم من آل محمد فتقدم نافع باللواء و صاحب به عمرو بن الحجاج من الرجل و ما جاء بک قال جئنا نشرب من هذا الماء
الذی حلأتمونا عنه فقال له اشرب هنیئا قال نافع لا والله لا اشرب منه قطرة و الحسین و من تری من آله و صحبه عطاشا.
فقال لا سبیل الی سقی هؤلاء و انما وضعنا هاهنا لنمنعهم الماء ثم صاح نافع بأصحابه املأوا قربکم و شد علیهم اصحاب ابنالحجاج فکان بعض القوم یملأ القرب وبعض یقاتل و حامیهم «ابن بجدتها» مسدد الکماة المتربی فی حجر البسالة الحیدریة و المرتضع من لبانها «أبوالفضل» فجاؤوا بالماء و لیس فی القوم المناوئین من تحدثه نفسه بالدنو منهم فرقا من ذلک البطل المغوار فبلت غلة الحرائر و الصبیة الطیبة من ذلک الماء و ابتهجت به النفوس (5).
و لکن لا یفوت القاریء معرفة ان تلک الکمیة القلیلة من الماء ما عسی أن تجدی اولئک الجمع الذی هو أکثر من مائة و خمسین رجالا و نساء و اطفالا او انهم ینیفون علی المائتین علی بعض الروایات و من المقطوع به انه لم ترو أکبادهم الا مرة واحدة او انها کمصة الوشل فسرعان ان عاد الیهم الظما و الی الله سبحانه المشتکی.
الثانی – کان أصحاب الحسین علیهالسلام بعد الحملة الاولی التی استشهد فیها خمسون یخرج الاثنان و الثلاثة
و الاربعة وکل یحمی الآخر من کید عدوه فخرج الجابریان و قاتلا حتی قتلا و خرج الغفاریان فقاتلا معا حتی قتلا و قاتل الحر الریاحی و معه زهیر بن القین یحمی ظهره حتی فعلا ذلک ساعة فکان اذ شد احدهما و استلحم شد الآخر و استنقذه حتی قتل الحر. (6).
و فی تاریخ الطبری ج 6 ص 255 ان عمرو بن خالد الصیداوی و سعد مولاه و جابر بن الحارث السلمانی و مجمع بن عبدالله العائذی شدوا جمیعا علی أهل الکوفة فلما اوغلوا فیهم عطف علیهم الناس من کل جانب و قطعوهم عن اصحابهم فندب الیهم الحسین اخاه العباس فاستنقذهم بسیفه و قد جرحوا بأجمعهم و فی اثناء الطریق اقترب منهم العدو فشدوا بأسیافهم مع ما بهم من الجراح و قاتلوا حتی قتلوا فی مکان واحد و فازوا بالسعادة الخالدة.
1) غرر الخصائص للوطواط ص 17 فی باب حفظ الجوار.
2) تاج العروس ج 7 ص 312 وج 8 ص 400 و قد نظم هذه الخاصة أبوبکر محمد بن العباس الخوارزمی المتوفی سنة 373 ففی معجم البلدان ج 1 ص 63 بمادة امل انه قال: بآمل مولدی و بنوجریر فاخوالی ویحکی المرء خاله فها أنا رافضی عن تراث و غیری رافضی عن کلاله عرض بابن جریر صاحب التاریخ فانه اخو امه و کان من أهل السنة و انما نسبه الی التشیع الحنابلة لتصحیحه حدیث الغدیر فتشیعه ادعائی و هو المعبر عنه (بالکلالة) فانها فی اللغة ما لم یکن من النسب لحا فقول الحموی فی المعجم کذب الخوارزمی لان ابنجریر من اعلام السنة مبنی علی عدم فهمه الغرض من البیت فالخوارزمی لم یعترف بتشیعه.
3) امالی القالی ج 2 ص 271 و السمط ج 2 ص 910 و الاغانی ج 14 ص 129.
4) مقتل محمد بن أبیطالب.
5) تاریخ الطبری جذ 6 ص 234 و الاخبار الطوال ص 53.
6) الطبری ج 6 ص 252.