العصمة فی کلام العرب: المنع، و عصمة الله عبده: أن یعصمه و یمنعه مما یوبقه و یهلکه، و عصمه یعصمه عصما: منعه و وقاه، و فی التنزیل العزیز: (لا عاصم الیوم من أمر الله الا من رحم) أی: لا مانع، و اعتصم فلان بالله: اذا امتنع به، و العصمة: الحفظ، یقال: عصمته فانعصم، اعتصمت بالله: اذا امتنعت بلطفه من المعصیة.
اذن: فالعصمة من حیث اللغة هی: الحفظ و الوقایة، و الصون و المنع، و من حیث الاصطلاح هی: قوة معنویة، و ملکة روحیة، یهبها الله لمن یشاء من عباده، یحفظه بها من العیوب و الذنوب، و من الخطأ و الزلل، و یقیه عبرها من السهو و النسیان، و من العثرات و الهفوات، لکن لا علی وجه یسلب منه الاختیار، بل علی وجه یبقی له حق الاختیار محفوظا، و ذلک لأن الاختیار هو من لوازم التکلیف، فاذا سلب منه الاختیار کان معناه: سلب التکلیف عنه، و الحال أن المعصومین علیهمالسلام مکلفون بالتکالیف الشرعیة کسائر الناس، فتکلیفهم دلیل علی أن العصمة التی جعلها الله تعالی فیهم غیر سالبة لاختیارهم.
اذا عرفنا معنی العصمة، فلا بد لنا أن نعرف بعدها أن العصمة علی قسمین: ذاتیة واجبة، و عرضیة مکتسبة.
أما القسم الأول من العصمة، و هی العصمة الذاتیة الواجبة: فهی العصمة الکبری، التی جعلها الله تعالی فی ذات الأنبیاء و أوصیائهم، و أوجبها لهم، و جبلهم علیها، و خصهم بها، حتی قال تعالی و هو أصدق القائلین، و أعدل المخبرین، فی محکم کتابه، و مبرم خطابه و هو یخبر عن نبیه الکریم، و رسوله المصطفی، خاتم أنبیائه، و سید رسله، محمد بن عبدالله صلی الله علیه و آله و سلم، و عن ابنة نبیه، الصدیقة الکبری: فاطمة الزهراء علیهاالسلام، و عن أوصیاء نبیه، الطیبین الطاهرین: أمیرالمؤمنین علی بن أبیطالب علیهالسلام و الأئمة الأحد عشر من ذریته بدءا بالامام المجتبی و ختما بالامام المهدی علیهالسلام، و یصفهم بالعصمة فی هذه الآیة الکریمة من سورة الأحزاب القائلة: (انما یرید الله لیذهب عنکم الرجس أهلالبیت و یطهرکم تطهیرا(.
و انما جعل الله تعالی العصمة فی ذات أنبیائه و أوصیائهم، و جبلهم علیها، و أوجبها لهم و زینهم بها، و خص من بینهم: المعصومین الأربعة عشر علیهمالسلام بأعلی درجاتها، و أرقی مراقیها، لأن الله تعالی خول نبیه الکریم و أهلبیته الطاهرین حقه و شریعته، و فوض الیهم ولایته و دینه، و جعلهم أولی بالمؤمنین من أنفسهم، و أمر الناس بطاعتهم و الانقیاد لهم، فاذا لم یکونوا مع ذلک کله معصومین من الزلل و الخطل، و السهو و النسیان، کان معناه: ایقاع الناس فی الخطأ و الاشتباه، و سوقهم الی الضلال و الفساد، و حاشا لله أن یفعل ذلک، فان الله تعالی حکیم، و لا یفعل الحکیم ما یخالف الحکمة.
هذا مضافا الی أن الله تبارک و تعالی جعل مهمة النبی صلی الله علیه و آله و سلم أداء
الرسالة و تبلیغها، و جعل مهمة أوصیائه و الأئمة علیهمالسلام من بعده، حفظ تلک الرسالة و حراستها، فاذا لم یسلح الله تعالی نبیه الکریم و کذلک أوصیاءه و الأئمة الطاهرین من بعده بالعصمة، لم یکن أحد منهم مصونا من الاشتباه و النسیان، و الزیادة و النقصان، و اذا احتمل فی حقهم ذلک لعدم عصمتهم، انعدمت الثقة بهم و مما جاءوا به، و سلب الاطمئنان الیهم و بما قالوه، و بذلک تبطل الشرائع و الأدیان، و تنسخ الامامة و الوصایة و النبوات. و نسخ الامامة و النبوات، و بطلان الشرائع و الأدیان خلاف حکمة الله تعالی، و نقضا لغرض الله الحکیم، فلا بد اذن من کون النبی صلی الله علیه و آله و سلم و أوصیائه و الأئمة من أهلبیته علیهمالسلام من بعده معصومین، و فی أرقی مراقی العصمة، و أرفع درجاتها، و أعلی قممها.
و لقد أجاد الشیخ کاظم الأزری فی قصیدته التی یصف فیها عصمة النبی صلی الله علیه و آله و سلم و أهلبیته علیهمالسلام حیث یقول:
معقل الخائفین من کل خوف
أوفر العرب ذمة أوفاها
مصدر العلم لیس الا لدیه
خبر الکائنات من مبتداها
فاض للخلق منه علم و حلم
أخذت منهما العقول نهاها
نوهت باسمه السماوات و الأرض
کما نوهت بصبح ذکاها
و غدت تنشر الفضائل عنه
کل قوم علی اختلاف لغاها
طربت لاسمه الثری فاستطالت
فوق علویة السما سفلاها
تلک نفس أعزها الله قدرا
فارتضاها لنفسه و اصطفاها
حاز من جوهر التقدس ذاتا
تاهت الأنبیاء فی معناها
لا تجل فی صفات أحمد فکرا
فهی الصورة التی لن تراها
أی خلق لله أعظم منه
و هو الغایة التی استقصاها
قلب الخافقین ظهرا لبطن
فرأی ذات أحمد فاجتباها
لست أنسی له منازل قدس
قد بناها التقی فأعلی بناها
و رجالا أعزة فی بیوت
أذن الله أن یعز حماها
سادة لا ترید الا رضی الله
کما لا یرید الا رضاها
خصها عن کماله بالمعانی
و بأعلی أسمائه سماها
لم یکونوا للعرش الا کنوزا
خافیات سبحان من أبداها
کم لهم ألسن عن الله تنبی
هی أقلام حکمة قد براها
و هم الأعین الصحیحات تهدی
کل عین مکفوفة عیناها
علماء أئمة حکماء
یهتدی النجم باتباع هداها
قادة علمهم و رأی حجاهم
مسمعا کل حکمة منظراها
ما أبالی ولو أهیلت علی الأرض
السماوات بعد نیل ولاها
و أما القسم الثانی من العصمة، و هی العصمة العرضیة المکتسبة:
فهی العصمة التی نالها أولیاء الله المخلصون بجدهم و جهدهم، و حصل علیها عباد الله الصالحون بتعبهم و عنائهم، و هم أولئک الذی عرفوا الله تعالی حق معرفته، و أیقنوا به عین الیقین، فأحسوه بکل وجودهم
و کیانهم، و لمسوه بقلوبهم و أرواحهم، فآمنوا به أخلص الایمان، و أذعنوا له غایة الاذعان، و سلموا الیه منتهی التسلیم، و توکلوا علیه أصدق التوکل.
انهم علموا بأنه تعالی مطلع علیهم فاستحیوا من أن یعصوه، و أیقنوا بأنه قادر علیهم فهابوا من أن یخالفوه، انهم اطمأنوا الی أنه تعالی سیحاسبهم علی ما عملوه فأحجموا الا عن البر و الاحسان، و عرفوا بأنه سیؤاخذهم علی ما قالوه فسکتوا الا عن المعروف الخیر، و حسبوا بأنه سیجازیهم علی کل صغیرة و کبیرة، فعملوا بما أمر الله به حتی المستحبات فکیف بالواجبات و الفرائض؟ و اجتنبوا عما نهی الله عنه حتی المکروهات فکیف بالمعاصی المحرمات؟
انهم لم یفکروا فی شیء الا فی عظمة الله و کبریائه، و عزته و قدرته، و علمه و حکمته، و حلمه و غضبه، و رأفته و رحمته، و آثاره و صنعه، و آلائه و نعمه، فرأوا أهلا للعبادة فعبدوه، و أهلا للشکر فشکروه، و أهلا للتعظیم و التقدیس فعظموه و قدسوه.
انهم عرفوا أن الدنیا و الهوی، و النفس و الشیطان، عدوا لهم، فاتخذوهم عدوا، فرغبوا عن الدنیا، و خالفوا أهوائهم، و روضوا أنفسهم علی التقوی، و عصوا الشیطان، و أطاعوا الرحمن، و نفعوا عباد الله، و خدموا خلق الله، و أرضوا بذلک الرحمن، و أرغموا أنف الشیطان.
انهم اطمأنوا الی أنه تعالی طبیبهم فاتبعوا و صفته، و حکیمهم فانتهجوا حکمته، و ربهم و خالقهم فعملوا برضاه و اجتنبوا سخطه
و غضبه، و رازقهم و هادیهم، فأحبوه و أخلصوا له فی حبه، و أحبوا من أمر الله تعالی بحبهم و مودتهم، و أبغضوا من أوجب الله تعالی بغضهم و عداوتهم، و أطاعوا من فرض الله تعالی طاعتهم، و خالفوا من أمر الله تعالی بمخالفتهم، و نصروا الله و دینه، و کانوا مع رسوله و أهلبیته، فقدموهم علی أنفسهم، و بذلوا أرواحهم وقاءا لهم، و استشهدوا بین أیدیهم.
و لیس هذه المواصفات التی ذکرناها کلها الا معنی العصمة، و قد نالها أبوالفضل العباس علیهالسلام بجدارة و کفاءة، و اکتسبها لنفسه بهمة و اجتهاد، و اتصف بها بکل قوة و صلابة.
ألیس هو الذی أطاع الله و کان مع الصادقین مع ریحانة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و سبطه الامام الحسین علیهالسلام، و عصی الهوی و الشیطان لما عرض علیه الامارة و الأمان، فلعن أمانه و خداعه، و فخه و مکره؟
و ألیس هو الذی رغب عن الدنیا، و روض نفسه علی التقوی، و واسی أخاه العطشان، فلم یشرب من الماء و هو علی الماء، مع عظیم عطشه، و شدة ظمائه، فنال بذلک و سام: «المواسی» کما جاء فی زیارته علیهالسلام: «فنعم الأخ المواسی«؟
و ألیس هو الذی قدم دمه، و بذل نفسه فی نصرة الله و کتابه، و حمایة رسول الله و ذریته، و طاعة امامه و ولیه، و مضی شهیدا محتسبا، حمیدا طیبا، حتی قال فی حقه الامام الصادق علیهالسلام کما فی الزیارة
المأثورة عنه علیهالسلام و هو یلعن قاتلیه: «فلعن الله أمة قتلتک، و لعن الله أمة ظلمتک، و لعن الله أمة استحلت منک المحارم، و انتهکت حرمة الاسلام» و هل ینتهک بقتل کل أحد حرمة الاسلام؟ طبعا: لا، الا من نال و سام العصمة بکفاءة، و حصل علیها بجد و جهد، کأبیالفضل العباس علیهالسلام، فانه بقتله، و هکذا بقتل الامام المعصوم الذی جعل الله العصمة فی ذاته، و أوجبها له فی جبلته، کالامام الحسین علیهالسلام یتم انتهاک حرمة الاسلام. فهذه الفقرة من الزیارة اذن تشیر اشارة ضمنیة واضحة الی أن أباالفضل العباس علیهالسلام هو من أصحاب العصمة الصغری، و أنه قد نال بجدارة العصمة من القسم الثانی، فهنیئا لأبیالفضل بها دورته الثقافیة، حیث أمضاها بدمائه الحمراء، و وقع علیها بیدیه المقطوعتین فی سبیل الله، و نصرة دینه، و الذب عن امامه.