و ندب ابنمرجانة لحرب مسلم محمد بن الأشعث، و عمرو بن حریث المخزومی و ضم الیهما ثلثمائة رجل من فرسان الکوفة، و أقبلت تلک الوحوش الکاسرة التی لا عهد لها بالشرف و المروءة الی حرب مسلم الذی أراد أن یحررهم من الذل و العبودیة، و ینقذهم من ظلم الأمویین و جورهم.
و لما قربت الجیوش من دار طوعة علم مسلم أنها قد أتت لحربه، فسارع الی فرسه فأسرجه و ألجمه، و صب علیه درعه، و تقلد بسیفه، و التفت الی السیدة الکریمة طوعة فشکرها علی حسن ضیافتها، و أخبرها أنه انما أوتی الیه من قبل ابنها الباغی اللئیم.
و اقتحم الجیش الدار علی مسلم فشد علیهم کاللیث یضربهم بسیفه ففروا منهزمین من بین یدیه یطاردهم الرعب و الخوف، و بعد فترة عادوا الیه فحمل علیهم، و أخرجهم من الدار، و انطلق نحوهم فجعل یحصد رؤوسهم بسیفه، و قد أبدی من البطولات النادرة ما لم یشاهد مثله فی جمیع فترات التاریخ، فقد قتل منهم – فیما یقول بعض المؤرخین – واحدا و أربعین، عدا الجرحی، و کان من قوته النادرة، و عظیم بأسه أن یأخذ الرجل منهم بیده، و یرمی به فوق البیت کأنه حجر، و من المؤکد أنه لیس فی تاریخ الانسانیة مثل هذه البطولة، و لا مثل هذه القوة، و لیس ذلک غریبا علیه، فعمه الامام أمیرالمؤمنین علیهالسلام أشجع الناس، و أقواهم بأسا و أشدهم عزیمة.
و جعل أنذال أهل الکوفة یرمون مسلما بالحجارة و قذائف النار من فوق سطوح بیوتهم، و مما لا ریب فیه أن الحرب لو کانت فی البیداء لأتی علیهم مسلم، و لکنها کانت فی الأزقة و الشوارع، و مع ذلک فقد فشلت جیوش أنذال أهل الکوفة، و عجزت عن مقاومة البطل العظیم، فقد أشاع فیهم القتل و الدمار، و أسرع ابن الأشعث بالطلب الی سیده ابنمرجانة لیمده بالخیل
و الرجال، لأنه لا یقوی علی مقاومة هذا البطل العظیم، و بهر الطاغیة، و أخذ یندد بقیادة ابنالأشعث قائلا:
»سبحان الله!! بعثناک الی رجل واحد تأتینا به فثلم فی أصحابک هذه الثلمة العظیمة…«.
و ثقل علی ابن الأشعث هذا التفریع، فراح یشید ببطولات ابنعقیل قائلا:
»أتظن أنک أرسلتنی الی بقال من بقالی الکوفة، أو جرمقانی من جرامقة الحیرة و انما بعثتنی الی أسد ضرغام، و سیف حسام فی کف بطل همام من آل خیر الأنام«. و أمده ابنزیاد بقوة مکثفة من الجیش، فجعل بطل الاسلام و فخر عدنان یقاتلهم أشد القتال و أعنفه و هو یرتجز:
أقسمت لا أقتل الا حرا
و ان رأیت الموت شیئا نکرا
أو یخلط البارد سخنا مرا
رد شعاع الشمس فاستقرا
کل امریء یوما یلاقی شرا
أخاف أن أکذب أو أغرا
أما أنت یا ابنعقیل فکنت سید الأباة و الأحرار فقد رفعت لواء العزة و الکرامة، و رفعت شعار الحریة، و أما خصومک فهم العبید الذین رضوا بالذل و الهوان، و خضعوا للعبودیة و الذل، لقد أردت أن تحررهم، و تعید لهم الحیاة الحرة الکریمة، فأبوا ذلک، وعدوا علیک یقاتلونک، و قد فقدوا بذلک انسانیتهم، و مقومات حیاتهم.
و لما سمع ابنالأشعث رجز مسلم الذی أقسم فیه علی أن یموت میتة الأحرار و الأشراف انبری الیه لیخدعه قائلا:
»انک لا تکذب، و لا تخدع، ان القوم بنو عمک و لیسوا بقاتلیک، و لا ضاربیک..«.
فلم یحفل مسلم بأکاذیب ابنالأشعث، و راح یقاتلهم أعنف القتال و أشده، ففروا منهزمین من بین یدیه، و هو یحصد رؤوسهم، و جعلوا یرمونه بالحجارة، فأنکر علیهم مسلم ذلک و صاح بهم:
»ویلکم ما لکم ترموننی بالحجارة، کما ترمی الکفار، و أنا من أهل بیت الأبرار، ویلکم أما ترعون حق رسول الله صلی الله علیه و آله، و ذریته..«.
ان هؤلاء الأجلاف قد فقدوا جمیع القیم و الأعراف، فلم یرعوا أیة حرمة لرسول الله صلی الله علیه و آله الذی حررهم من حیاة التیه فی الصحراء و أقام لهم حضارة لم تعهدها الأمم و الشعوب، فکان جزاؤه منهم أن عدوا علی أبنائه و ذریته فأوسعوهم قتلا و تنکیلا.
و علی أی حال فان جیوش ابنزیاد لم تستطع مقاومة البطل العظیم و بان علیهم الانکسار، و ضاق بابن الأشعث أمره، فدنا من مسلم و رفع عقیرته قائلا:
»یا ابنعقیل لا تقتل نفسک، أنت آمن، و دمک فی عنقی…«.
و لم یعن مسلم بأمان ابنالأشعث لعلمه أنه من أسرة خبیثة لا تعرف أی معنی من معانی النبل و الوفاء، فرد علیه قائلا:
»یا ابنالأشعث لا أعطی بیدی أبدا، و أنا أقدر علی القتال، والله لا کان ذلک أبدا..«.
و حمل علیه مسلم ففر الجبان منهزما یلهث کالکلب، و أخذ العطش القاسی من مسلم مأخذا عظیما، فجعل یقول:
»اللهم ان العطش قد بلغ منی…«.
و تکاثرت الجنود علی مسلم، و قد استولی علیهم الرعب و الخوف،
و صاح بهم ابنالأشعث:
»ان هذا هو العار و الفشل أن تجزعوا من رجل واحد هذا الجزع، احملوا علیه بأجمعکم حملة واحدة…«.
فحمل الأوغاد اللئام علی مسلم، و جعلوا یطعنونه برماحهم، و یضربونه بسیوفهم، و قد ضربه الوغد بکیر بن حمران الأحمری ضربة منکرة علی شفته العلیا، و أسرع السیف الی السفلی، و ضربه مسلم ضربة أردته الی الأرض.