بخلاف الکائنات الحیة، یولد الطفل ولادة حضاریة، بمعنی أنه یأتی إلی الحیاة مزودا بأدوات و آلات و أجهزة الحضارة، حاملا معه کل الأسباب و العوامل التی تصنع منه إنسانا حضاریا إذا شاء أن یکون حضاریا.. و إشاءته هذه هی منحة و عطیة من الله سبحانه کرم بها هذا الإنسان تکریما لم یسبق له مثیل فی تاریخ الکون العمیق، و لهذا کانت إشاءة الإنسان منبعثة من إشاءة الله عزوجل.
(و ما تشاؤون إلا أن یشاء الله رب العالمین(. و بالفعل فقد شاء الله أن یکرم الإنسان بهذه العطیة الکریمة و یجعله حرا فی الحیاة حتی فی عقیدته: فمن شاء فلیؤمن و من شاء فلیکفر«.
و یقول: «لا إکراه فی الدین قد تبین الرشد من الغی«.
علی أن هذه العطیة – عطیة الحریة – إنما هی أمانة مقدسة لا یمکن الاستهانة بها بأی حال من الأحوال علی رغم النداء القرآنی الذی یقول: (لا إکراه فی الدین..) لأن هذا النداء یوافق الفطرة، و یوافق ترکیبة الإنسان الحرة التی ترفض أی لون من ألوان الإکراه، و من هنا أصبح الإکراه لا یقع إلا علی جسد الإنسان و لیس علی قلبه: «لا من أکره و قلبه مطمئن بالإیمان»
فالبدن یعانی من الإکراه و التعذیب بینما القلب فی هدوء و طمأنینة.. أقول: علی رغم هذا کله.. فهو لا یعنی أن الإنسان إنما جاء لیمارس حریته فی الکفر و الإلحاد و الزندقة.. کلا ثم کلا.. و إنما الإنسان جاء لیؤدی دورا حضاریا بالغا.. و هو – أی الإنسان – یحمل أمانة فی عنقه عجزت السموات و الأرض و الجبال عن حملها و لذلک فإنه لکی یکتشف الواحد منا قدره لا بد له من حفظ هذه الأمانة.. و المحافظة علی الأمانة تکمن فی فطنة الإنسان لنفسه و معرفته لکیفیة استخدام طاقاته و استعداداته التی جاء یحملها معه إلی الحیاة. من أجل تکوین مخلوق حضاری ینشر الخیر و الحب و السلام و العطاء فی کل مکان.. و أینما حل و نزل.
و حتی لا یشط بنا القلم بعیدا عن هدفنا من هذه الدراسة فانه لا بد لنا من العودة إلی أصل الموضوع و هو: إن الإنسان هو المخلوق الوحید من بین الکائنات الذی یولد حاملا معه جمیع أدوات و آلات و أجهزة الحضارة، بالإضافة إلی معرفته الکاملة فی کیفیة استخدام هذه الأجهزة.. و ذلک أن الله سبحانه و تعالی، لم یخلق الإنسان و یترکه سدی.. و إنما خلقه وزوده بوسائل العلم، و عوامل الرقی، ثم علمه کیف یهتدی إلی طریق الخیر.. و کیف یأخذ و یعطی فی الحیاة. (الذی أعطی کل شیء خلقه ثم هدی) فهذه الآیة – و إن بدت تشیر إلی المخلوقات کافة – إلا أنها تظل تخص الإنسان أکثر من غیره فی هذا المضمار.. لأن الله سبحانه قد زود البشر بهدایتین ترشدانه إلی جادة الخیر.. و طریق السعادة.. و هما: العقل و الأنبیاء. فالعقول حجة باطنة.. و الأنبیاء حجة ظاهرة.. کما أنه یوجد تقارب بل عناق بین هاتین الحجتین..
فالأنبیاء جاؤا لإثارة دفائن العقول.. و العقول دائما تستجیب لفکر الأنبیاء لأنها رکبت علی الفطرة و الأنبیاء هم وحدهم الذین یحملون غذاء الفطرة.. الأنبیاء و أوصیاؤهم من الأئمة المعصومین – علیهم أفضل الصلاة و أزکی السلام.
ولکی نعرف کم هو غذاء الفطرة مهما و مطلوبا بالنسبة للإنسان السوی، فإنه لا بد لنا من اکتشاف دور الأم و اهتمام الإسلام البالغ بهذا الدور التربوی الحضاری.
حجر الأم له مکانة کبیرة، و منزلة عظیمة فی الإسلام فی مجال التربیة و الإعداد الحضاری، فرعایة الأم لطفلها یعتبر من أهم أعمدة التربیة التی تقوم علیها الحضارة الإنسانیة، و ما حجر إسماعیل الذی نطوف حوله فی البیت الحرام، فی اللیل و فی النهار، إلا مثوی هاجر أم إسماعیل الذبیح.. أی أن حجر إسماعیل هو قبر أمه هاجر، و إنما أطلق علیه إسم الحجر و ذلک إکراما و إعظاما لمنزلة الأم، و الدور الذی تؤدیه فی هذا المسعی التربوی الکبیر.
الأم مدرسة إذا أعددتها
أعددت شعبا طیب الأعراق
هکذا قال الشاعر، و إن من الشعر لحکمة.
و نحن فی حدیثنا هذا عن الأم و دورها نستعرض النقاط التالیة:
أولا – لکی نستوعب الفکرة، لا بد من الإشارة إلی أن تکوین الإنسان إنما یکتمل فی مرحلتین أساسیتین: مرحلة الحمل، و مرحلة الرضاعة، و قد ذکر القرآن الکریم هاتین المرحلتین فی آیة واحدة قال فیها: (و حمله و فصاله ثلاثون شهرا) فالحمل فترة تسعة أشهر و هی المدة التی یستغرقها الجنین فی بطن أمه، بینما الفصال یعنی فترة الرضاعة و التی حددها القرآن الکریم بحولین کاملین، علما أن الآیة الکریمة هذه أشارت إلی أقل فترة فی الحمل و هی ستة أشهر لأن فترة الحمل تتأرجح بین 6 إلی 9 و ربما 10 أشهر کما هو معروف فی کتب الفقه الإسلامی، و طبعا هنا لست فی معرض طرح الجانب الفقهی من هذه المسألة، و إنما موضوع الفقه موکول إلی الفقهاء و کتب الفقه، و إنما أردت فقط أن أشیر إلی حقیقة و هی أن الطفل یمر بأهم مرحلتین فی حیاته و هی مرحلة الحمل فی بطن الأم، و مرحلة
الرضاعة فی حجرها.. و لکل واحدة دور کبیر لا یستهان به، فالطفل فی فترة الحمل یتم تکوینه جسدیا، فی حین أن تکوین الطفل النفسی لا یکتمل إلا فی حجر الأم لأن الأم حین ترضع ولدها فإنها تقوم بالإضافة إلی تغذیته بالحلیب، تقوم بتغذیة روحه و نفسه، و عقله و قلبه.. بل أکثر من ذلک.
فإن حجر الأم یقوم بصناعة الطفل صناعة ربانیة لا بدیل عنها، و لیس هناک من یقوم بهذا الدور، لا دور الحضانة، و لا الروضات، و لا المدارس الخاصة التی تعنی بهذا الجانب، فقد أثبتت الأرقام العلمیة التی وردت فی هذا المجال أنه لا بدیل لحجر الأم فی تربیة الطفل و تنشئته نشأة ربانیة أو قل صناعة ربانیة قائمة علی غذاء الفطرة السلیم الصحیح.
و نحن حین نقرأ القرآن الکریم نجد الإشارة واضحة إلی هذا الجانب، ففی قصة موسی – علیهالسلام – نجد الحق سبحانه و تعالی یخاطبه بقوله:
(و ألقیت علیک محبة منی، و لتصنع علی عینی.. إذ تمشی أختک فتقول هل أدلکم علی من یکفله، فرجعناک إلی أمک کی تقر عینها و لا تحزن) (1).
إذن: فالصناعة، الحضاریة فی تربیة الطفل و التی أشار إلیها القرآن الکریم بقوله: (و لتصنع علی عینی) لا تتحقق و لا تکتمل إلا فی حجر الأم.. لأن حجر الأم هو وحده الذی یصنع الإنسان العظیم.
الإنسان الشجاع.. العابد.. الزاهد.. الإنسان الذی لا ینحنی و لا یرکع لغیر الله.
الإنسان العزیز الذی یرفض الذل و ینبذ الهوان.. و قد أشار الإمام الحسین – علیه أفضل الصلاة و أزکی السلام – إلی هذا الجانب التربوی العظیم بقوله: «ألا و أن الدعی ابن الدعی قد رکز بین اثنتین.. بین السلة و الذلة.. و هیهات منا الذلة یأبی الله لنا ذلک و رسوله و المؤمنون، و حجور طابت و طهرت و أنوف حمیة و نفوس أبیة من أن نؤثر طاعة اللئام علی مصارع الکرام..»
أنظروا إلی کلمة أبی الأحرار سید الشهداء الحسین.. إنه یقول: یأبی الله لنا ذلک.. أی أن الله یأبی لنا أن نذل و نخزی.. «یأبی الله لنا ذلک و رسوله و المؤمنون و حجور طابت و طهرت..»
و الحجور هنا جمع حجر.. و هو حجر الأم.. أی أن الأم الصالحة المؤمنة التی تخاف الله و تخشاه تربی أولادها تربیة طاهرة عظیمة.. تربیهم علی العزة و الکرامة کما صنعت بنا أمنا فاطمة الزهراء – سلام الله علیها حیث قامت بتربیتنا علی النور و الإیمان و الشجاعة.. والعزة و الکرامة.. لقد تلقینا تربیة من أقدس حجر فی الکون.. ألا و هو حجر الصدیقة الطاهرة فاطمة الزهراء – سلام الله علیها.. و قد تطرق جابر بن عبدالله الأنصاری لهذا الجانب فی زیارته لقبر الحسین یوم الأربعین حینما ألقی بنفسه علی قبر الحسین بن علی منادیا: یا حسین.. یا حسین.. یا حسین.. ثم قال: حبیب لا یجیب حبیبه.. و أنی لک بالجواب و قد شحطت أوداجک علی اثباجک، و فرق بین رأسک و بدنک.. أشهد أنک ابن خیر البنین.. و ابن سید الوصیین.. و ابن حلیف التقوی و سلیل الهدی.. و خامس أصحاب الکساء و ابن سید النقباء و ابن فاطمة سیدة النساء (ثم قال(:
و مالک لا تکون هکذا.. و قد غذتک کف سید المرسلین.. و ربیت فی حجر المتقین و رضعت من ثدی الإیمان و فطمت بالإسلام فطبت حیا و طبت میتا..«.
إذن: فجابر أکد هنا أن الحسین کان قد تربی فی حجر المتقین، و رضع من ثدی الإیمان و فطم بالإسلام..
.. علی أن هذا الکلام إنما هو إشارة صریحة إلی أهمیة الدور التربوی فی حجر الأم و أهمیة صلاح الأم فی تکوین شخصیة الطفل.
و من هذا المنطلق نجد أن الإمام علیا أمیرالمؤمنین – علیهالسلام – قد هیأ الأجواء التربویة لولده أبیالفضل العباس من قبل أن یولد أبوالفضل و ذلک عندما قال لأخیه عقیل:
أنظر لی امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لی غلاما فارسا.. فقال له: «تزوج بأم البنین العامریة (الکلابیة) فإنه لیس فی العرب أشجع من أبائها» (2).
و من هذه الروایة ندرک کم هی نظرة الإسلام إلی التربیة عمیقة و بعیدة المدی و حضاریة… فالتربیة فی الإسلام لا تبدأ من ساعة الولادة.. و لا من أیام الحمل.. أبدا.. کما أن منهاج التربیة لا یبدأ من ساعة العقد.. و لا من لیلة الزفاف و الدخلة.. و إنما تبدأ التربیة من اللحظة التی تصمم فیها أن تکون زوجا و تفتش عن شریکة حیاة لک.. من هذه اللحظة.. من لحظة التصمیم علی الزواج تبدأ مناهج التربیة مع أن الإسلام یأمرک أن تفکر أین تصنع نفسک؟ أین تصنع نطفتک التی تحملها فی صلبک؟
الإسلام یرید منک أن تفکر بالمرأة التی ترید أن تطلب یدها.. من هی؟ و کیف دینها.. و ما هو المستوی الخلقی و التربوی عندها.. فکر بکل هذه الأمور قبل أن تقدم علی خطبة أیة فتاة، لأنک مسؤول أمام الله عن هذه الفتاة التی ستصبح فیما بعد أما لأولادک.
و الویل للرجل الذی یقع اختیاره علی زوجة حمقاء لا دین و لا ضمیر و لا وجدان.. الویل له من عذابها و مرارة الحیاة معها لأنها ستصلیه نارا بتصرفاتها فی الأسرة و فی الحیاة الزوجیة.. کما أنه فی المقابل.. الویل للفتاة التی ترضی برجل لا دین له و لا ضمیر أن یکون زوجا لها.. و شریکا لها فی العمر.
و من هنا جاءت التحذیرات: «إیاکم و خضراء الدمن! قیل: یا رسول الله و ما خضراء الدمن؟ قال: المرأة الحسناء فی منبت السوء«.
إنها جمیلة.. ولکنها لا أصل لها.. و لا جذور و إنما هی تحمل الجمال من الخارج و نفسها أبشع من البشاعة.. تفتش فی أعماقها فلا تلمس بصیص نور و لا حبة هدی.
و یقول الرسول الأعظم – صلی الله علیه و آله و سلم -:
»إیاکم و التزوج بالحمقاء فإن صحبتها بلاء و ولدها ضیاع» لأن المرأة الحمقاء لا یمکن أن یستمر الواحد معها.. فهو إن استمر معها فإن الحیاة معها جحیم لا یطاق.. و إن طلقها فإن الأولاد مصیرهم الضیاع و التمزق.
و یقول فی حدیث ثالث:
-: «تخیروا لنطفکم فإن العرق دساس» أی أن عوامل الوارثة لها أثر بالغ فی تکوین و تصویر شخصیته الطفل.. إنه یلتقط صفاته الوارثة من أخواله، و أجداده.. کما یلتقطها من أبویه علی حد سواء.
و نقرأ فی روایة وردت من أهل البیت – علیهم الصلاة و السلام – تقول: «من حق الولد علی الوالد أن یختار له أما نجیبة» أجل إنه لعمری – حق عظیم.. أن یختار له أما طیبة و نجیبة.. اختیار بعنایة فائقة حتی یأتی الطفل إلی الحیاة مزودا بأفضل الصفات.. و أنبل مکارم الأخلاق.. و هذا
هو ما صنعه أمیرالمؤمنین علی – علیهالسلام – حینما خطب فاطمة أمالبنین لتلد له أربعة أقمار مشرقة هم: «العباس.. و جعفر و عبدالله و عثمان..» و بالفعل فقد وقف هؤلاء الأبطال وقفة حیرت العالم و أدهشته بصدقها و حقیقتها.. وقفوا یدافعون عن الإمام الحسین سید شباب أهل الجنة.. یدافعون عن المبادیء و القیم و الأهداف التی کان یحملها الحسین فی وجدانه و علی شفتیه و یدیه.. و طبعا أبوالفضل العباس هو سید إخوته الذین هم من أمالبنین، و هو زعیمهم.. و قمر بنیهاشم فقد أبلی بلاء حسنا.. و وقف یوم عاشوراء یکتب و یسجل أروع ملاحم البطولة، و الأریحیة و الفداء من أجل الدفاع عن الحق، و العدل و الحریة.. و المساواة.. من أجل الدفاع عن المظلومین.. و المحرومین.. من أجل الدفاع عن المعذبین فی الأرض. و بالتالی وقف أبوالفضل یناضل من أجل الدین و الإیمان و العقیدة.. و قد قطعوا یمینه فقال:
و الله أن قطعتموا یمینی
إنی أحامی أبدا عن دینی
و عن إمام صادق الیقین
نجل النبی الطاهر الأمین
1) سورة طه؛ الآیتان: 40 – 39.
2) العباس لعبد الرزاق المقرم ص 12.